للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَثُرُوا بِمِصْرَ، اسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ، وَعَمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَأْمُرُوا بالمعروف ولم ينهو عَنِ الْمُنْكَرِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقِبْطَ فَاسْتَضْعَفُوهُمْ إِلَى أَنْ أَنْجَاهُمْ عَلَى يَدِ نَبِيِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا تَقَارَبَتْ وِلَادَتُهَا، وَكَانَتْ قَابِلَةٌ مِنَ الْقَوَابِلِ الَّتِي وَكَّلَهُنَّ فِرْعَوْنُ بِحُبَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُصَافِيَةً لِأُمِّ مُوسَى، فَلَمَّا ضَرَبَ بِهَا الطَّلْقُ أَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: قَدْ نَزَلَ بِي مَا نَزَلَ، فَلْيَنْفَعْنِي حُبُّكِ إِيَّايَ الْيَوْمَ، قَالَتْ: فَعَالَجَتْ قُبَالَتَهَا، فَلَمَّا أَنْ وَقَعَ مُوسَى بِالْأَرْضِ هَالَهَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْ مُوسَى، فَارْتَعَشَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنْهَا، وَدَخَلَ حُبُّ مُوسَى قَلْبَهَا. ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: يَا هَذَا مَا جِئْتُ إِلَيْكِ حِينَ دَعَوْتِنِي إِلَّا وَمِنْ رَأْيِي قَتْلُ مَوْلُودِكِ، وَلَكِنْ وَجَدْتُ لِابْنِكِ هَذَا حُبًّا مَا وَجَدْتُ حُبَّ شَيْءٍ مِثْلَ حُبِّهِ، فَاحْفَظِي ابْنَكِ فَإِنِّي أَرَاهُ هُوَ عَدُوُّنَا، فَلَّمَا خَرَجَتِ الْقَابِلَةُ مِنْ عِنْدِهَا أَبْصَرَهَا بَعْضُ الْعُيُونِ، فَجَاءُوا إِلَى بَابِهَا لِيَدْخُلُوا عَلَى أُمِّ مُوسَى، فَقَالَتْ أُخْتُهُ يَا أُمَّاهُ هَذَا الْحَرَسُ (١) بِالْبَابِ، فَلَفَّتْ مُوسَى فِي خِرْقَةٍ، فَوَضَعَتْهُ فِي التَّنُّورِ وَهُوَ مَسْجُورٌ، وَطَاشَ عَقْلُهَا، فَلَمْ تَعْقِلْ مَا تَصْنَعُ.

قَالَ: فَدَخَلُوا فَإِذَا التَّنُّورُ مَسْجُورٌ، وَرَأَوْا أُمَّ مُوسَى لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا لَبَنٌ، فَقَالُوا لَهَا: مَا أَدْخَلَ عَلَيْكِ الْقَابِلَةَ؟ قَالَتْ: هِيَ مُصَافِيَةٌ لِي فَدَخَلَتْ عَلَيَّ زَائِرَةً، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهَا عَقْلُهَا فَقَالَتْ لِأُخْتِ مُوسَى: فَأَيْنَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ لَا أَدْرِي، فَسَمِعَتْ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنَ التَّنُّورِ فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّارَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَاحْتَمَلَتْهُ (٢) قَالَ: ثُمَّ إِنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا رَأَتْ إِلْحَاحَ فِرْعَوْنَ فِي طَلَبِ الْوِلْدَانِ خَافَتْ عَلَى ابْنِهَا، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي نَفْسِهَا أَنْ تَتَّخِذَ لَهُ تَابُوتًا ثُمَّ تَقْذِفَ التَّابُوتَ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَاشْتَرَتْ مِنْهُ تَابُوتًا صَغِيرًا، فَقَالَ لَهَا النَّجَّارُ: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا التَّابُوتِ؟ قَالَتْ: ابْنٌ لِي أُخَبِّئُهُ فِي التَّابُوتِ، وَكَرِهَتِ الْكَذِبَ، قَالَ وَلَمْ تَقُلْ: أَخْشَى عَلَيْهِ كَيْدَ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا اشْتَرَتِ التَّابُوتَ وَحَمَلَتْهُ وَانْطَلَقَتْ بِهِ انْطَلَقَ النَّجَّارُ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيُخْبِرَهُمْ بِأَمْرِ أُمِّ مُوسَى، فَلَمَّا هَمَّ بِالْكَلَامِ أَمْسَكَ اللَّهُ لِسَانَهُ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ فَلَمْ يَدْرِ الْأُمَنَاءُ مَا يَقُولُ، فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ قَالَ كَبِيرُهُمْ: اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَلَمَّا انْتَهَى النَّجَّارُ إِلَى مَوْضِعِهِ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَتَكَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَيْضًا يُرِيدُ الْأُمَنَاءَ فَأَتَاهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ فَأَخَذَ اللَّهُ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ وَلَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا، فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَوَقَعَ فِي وَادٍ يَهْوِي فِيهِ حَيْرَانَ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ رَدَّ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ يحفظه حيث ٦١/أمَا كَانَ، فَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ فَرَدَّ عَلَيْهِ لِسَانَهَ وَبَصَرَهُ فَخَرَّ لِلَّهِ (٣)


(١) في "أ": الحارس.
(٢) ذكره القرطبي أيضا عن وهب، وهو فيما يظهر متلقى عن أخبار أهل الكتاب، فإن وهبا أدخل في التفسير كثيرا من مروياتهم كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله.
(٣) ساقط من "أ".

<<  <  ج: ص:  >  >>