للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) }

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: "تَنْزِيلَ" بِنَصْبِ اللَّامِ كَأَنَّهُ قَالَ: نُزِّلَ تَنْزِيلًا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} ، قِيلَ: "مَا" لِلنَّفْيِ أَيْ: لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ، لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ يَأْتِهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا بِالَّذِي أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، {فَهُمْ غَافِلُونَ} عَنِ الْإِيمَانِ وَالرُّشْدِ. {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ، وَجَبَ الْعَذَابُ {عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، هَذَا كَقَوْلِهِ: "وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (الزُّمَرِ-٧١) . {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} ، نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ قَدْ حَلَفَ لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَيَرْضَخَنَّ رَأْسَهُ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي وَمَعَهُ حَجَرٌ لِيَدْمَغَهُ، فَلَمَّا رَفَعَهُ أُثْبِتَتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَزِقَ الْحَجَرُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى سَقَطَ الْحَجَرُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَنَا أَقْتُلُهُ بِهَذَا الْحَجَرِ، فَأَتَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَرْمِيَهُ بِالْحَجَرِ، فَأَعْمَى اللَّهُ تَعَالَى بَصَرَهُ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَاهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَهَ وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ الْفَحْلِ يَخْطُرُ (١) بِذَنَبِهِ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْهُ لَأَكَلَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا " (٢)

قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِلٌّ، أَرَادَ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ، فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ مَثَلًا لِذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ إِنَّا حَبَسْنَاهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ" (الْإِسْرَاءِ-٢٩) مَعْنَاهُ: لَا تُمْسِكْهَا عَنِ النَّفَقَةِ.


(١) يخطر البعير أي: يرفع ذنبه مرة بعد أخرى ويضرب به فخذيه.
(٢) أخرجه الطبري مختصرًا: ٢٢ / ١٥٢، قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (١٣٩) : "رواه ابن إسحاق في السيرة، وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن محمد بن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس إلى قوله قد يبست يداه على الحجر ... وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما" وانظر: ابن كثير: ٣ / ٥٦٥، البحر المحيط: ٧ / ٣٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>