للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" (١) .

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَوْ كَانَ العسر في حجر لَطَلَبَهُ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ، إِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ (٢) .

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرَّرَ الْعُسْرَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيُسْرَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتِ اسْمًا مُعَرَّفًا، ثُمَّ أَعَادَتْهُ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِذَا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثُمَّ أَعَادَتْهُ مِثْلَهُ صَارَ اثْنَيْنِ، وَإِذَا أَعَادَتْهُ مَعْرِفَةً فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِكَ: إِذَا كَسَبْتُ، دِرْهَمًا أَنْفَقْتُ، دِرْهَمًا، فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَإِذَا قُلْتَ: إِذَا كَسَبْتُ دِرْهَمًا فَأُنْفِقُ الدِّرْهَمَ، فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، فَالْعُسْرُ فِي الْآيَةِ مُكَرَّرٌ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ، فَكَانَ عُسْرًا وَاحِدًا، وَالْيُسْرُ مُكَرَّرٌ بِلَفْظِ [التَّنْكِيرِ] (٣) ، فَكَانَا يُسْرَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْرِ يُسْرًا آخَرَ.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ [الْحَسَنُ] (٤) بْنُ يَحْيَى بْنِ نَصْرٍ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ "النَّظْمِ" (٥) تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ غَيْرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعُسْرَ مَعْرِفَةٌ وَالْيُسْرَ نَكِرَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُسْرٌ وَاحِدٌ وَيُسْرَانِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ، إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِنْ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا [إِنَّ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا] (٦) ، فَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يكون الفارس واحدً وَالسَّيْفُ اثْنَيْنِ، فَمَجَازُ قَوْلِهِ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِلٌّ مُخِفٌّ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَيِّرُهُ بِذَلِكَ، حَتَّى قَالُوا: إِنْ كَانَ بِكَ طَلَبُ الْغِنَى جَمَعْنَا لَكَ مَالًا حَتَّى تَكُونَ كَأَيْسَرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَاغْتَّمَ النَّبِيُّ لِذَلِكَ، فَظَنَّ أَنَّ قَوْمَهُ إِنَّمَا يُكَذِّبُونَهُ لِفَقْرِهِ، فَعَدَّدَ اللَّهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَوَعَدَهُ الْغِنَى، لِيُسَلِّيَهُ بِذَلِكَ عَمَّا خَامَرَهُ مِنَ الْغَمِّ، فَقَالَ: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، مَجَازُهُ: لَا يَحْزُنْكَ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فِي الدُّنْيَا عَاجِلًا ثُمَّ أَنْجَزَهُ مَا وَعَدَهْ، وَفَتَحَ عَلَيْهِ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَدِهِ، حَتَّى كَانَ يُعْطِي الْمِئِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَيَهَبُ الْهِبَاتِ السَّنِيَّةَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَضْلًا آخَرَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ابْتِدَائِهِ: تَعَرِّيهِ مِنَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ، وَهَذَا وَعْدٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَجَازُهُ: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ


(١) أخرجه الطبري: ٣٠ / ٢٣٥ - ٢٣٦ وهو منقطع. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٥٥٠ أيضا لعبد بن حميد وابن مردويه.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: ٢ / ٣٨٠ - ٣٨١، والطبري: ٣٠ / ٢٣٦، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٥٥٠ - ٥٥١ عزوه للطبراني وابن مردويه.
(٣) في "ب" النكرة.
(٤) في "أ" الحسين والصحيح ما أثبت.
(٥) أي "نظم القرآن" ويقع في مجلدين. انظر: ترجمة أبي علي الحسن بن يحيى في "تاريخ جرجان" للسهمي ص (١٨٧ - ١٨٨) .
(٦) ما بين القوسين ساقط من "ب".

<<  <  ج: ص:  >  >>