للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ فقل لهم: أحِل لكم منها ="الطيبات"، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح (١) وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من"الجوارح"، وهن الكَواسب من سباع البهائم.

* * *

والطير سميت"جوارح"، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه:"جرح فلان لأهله خيرًا"، إذا أكسبهم خيرًا، و"فلان جارِحَة أهله"، يعني بذلك: كاسبهم، و"لا جارحة لفلانة"، إذا لم يكن لها كاسب (٢) ومنه قول أعشى بني ثعلبة.

ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا ... تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ (٣)


(١) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف ٣: ٣٠١/ ٥: ٥٥٥/٦: ٣٦١ / ٨: ٤٠٩ / ٩: ٣٩١.
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٤.
(٣) ديوانه: ١٦٤، وهي من قصيدة له طويلة، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي، ملك الحيرة. ثم ختم القصيدة بذكر الخمر، وذكر شبابه وما كان فيه من لهو ومروءة وبأس، فقال يصف لاذع قوله فيمن يعاديه (برواية الديوان) : وَلَقَدْ أَمْنَحُ مَنْ عَادَيْتُهُ ... كَلِمًا يَحْسِمْنَ مِنْ داءِ الكَشَحْ
وقطَعْتُ نَاظِرَيْهِ ظاهِرًا ... لا يكونُ مِثْلَ لَطْمٍ وكَمَحْ
ذَا حَبَارٍ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ... يُذْكِرُ الجَارِمَ مَا كَانَ اجتَرَحْ
قوله: "كلما" جمع"كلمة"، يعني به: هجاءه وشعره. وفي الديوان: "كلما" مضبوطة بضم الكاف وتشديد اللام المفتوحة، ونقل عن الديوان"كل ما"، وهو خطأ فيما أرجح. و"حسم الداء يحسمه": قطعه بالدواء. و"حسم العرق": قطعه، ثم كواه لئلا يسيل دمه. و"الكشح" (بفتح الكاف والشين) : داء يصيب الإنسان في كشحه فيكوى."الكشح" (بفتح فسكون) : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهما كشحان في الإنسان. و"طوى فلان كشحه": أي أعرض وولاك كشحه، من البغض والعداوة. وأراد بقوله: "داء الكشح"، العداوة والبغضاء. يقول: أهجوه هجاء يشفيه من داء البغض!
وقوله: "وقطعت ناظريه" أي: كويته كية ظاهرة في وسط جبينه، بين عينيه إلى أنفه: وقوله: "ظاهرًا" صفة لمحذوف، أي كيا ظاهر الأثر. ليس أثره كأثر اللطم أو الكمح. و"الكمح" (بفتحتين) : هو أثر كمح الفرس باللجام، أي رده وجذبه باللجام ليقف، فيترك ذلك أثرًا حيث موقع اللجام. وهو حرف لم تذكره كتب اللغة، وشرحته من سياق معنى الشعر. يقول: أثر اللطم غير بين فهو يزول، وأثر كمح اللجام سهل يأتي متتابعًا فلا يؤذي، أما هذا الظاهر فهو مكواة من النار (كما يبينه البيت الثالث) . وأنا في شك من رواية هذا البيت.
وقوله: "ذا حبار"، أي ذا أثر، صفة ثانية لقوله: "ظاهرًا"، و"الحبار" (بفتح الحاء) الأثر في الجلد من ضرب أو كي أو غيرها. ومثله"الحبر" (بكسر فسكون) . وفي الديوان"ذا جبار" (بضم الجيم) ، وهو لا معنى له، صواب إنشاده ما أثبت. و"الميسم": الحديدة التي يكوى بها. يشبه هجاه بالمكواة الحامية تنضج الجلد، وتبقي فيه أثرًا لا يزول، ولا تزال تذكره بما اجترم.
وأما رواية أبي جعفر، فهي في المخطوطة: "ذات حد" (بالحاء المفتوحة) ، فإن صحت كذلك فهي صفة لقوله: "كلما يحسمن"، و"الحد": صلابة الشيء وشدته ونفاذه، كما يقال"حد الظهيرة"، أي: أشد حرها. وإن صحت روايته كما كان في المطبوعة: "ذات خد"، (بالخاء المعجمة) : من"الخد" و"الأخدود"، وهو الشق، و"خدت الضربة جلده" إذا شقته وتركت فيه خدًا. و"أخاديد السياط"، آثارها في الجلد. وكلتاهما جيدة المعنى.
* * *
تنبيه: ديوان الأعشى المطبوع في أوربة، ديوان كثير الخطأ والتحريف والتصحيف، فمن أجل ذلك اجتهدت في تصحيح هذا الشعر، وفي كثير غيره مما سلف من شعر الأعشى.

<<  <  ج: ص:  >  >>