للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أخذ الأجر على قراءة القرآن]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

هل تجوز قراءة القرآن بأجر؟

الجواب

قارىء القرآن لا خلو من حالات أربعة:

الأولى: أن يقرأه تقربا إلى اللَّه كما يتقرب بالذكر والتسبيح وسائر أنواع القرب.

الثانية: أن يقرأه من أجل إفادة غيره بتعليمه إياه حفظا أو تجويدا، أو بوعظه وإرشاده به.

الثالثة: أن يقرأه من أجل إفادة غيره بحسن صوته وتطريبه وتلحينه، أو من أجل العلاج به.

الرابعة: أن يقرأه ليهب ثوابه إلى الميت.

والأجر على هذه القراءة إما أخروى وإما دنيوى، ولكل حالة حكمها.

١ -أما القراءة تقربا إلى الله سبحانه فلها ثواب أخروى إذا خلت من الرياء، وقد جاءت نصوص كثيرة ترغب فى قراءته، فالحرف الواحد بعشر حسنات، ويرقى القارئ فى درجات الجنة بمقدار ما يقرأ، والقرآن شافع مشفع، ويلبسه اللَّه تاج الكرامة وحلة الكًرامة ويرضى اللَّه عنه، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، إلى غير ذلك من أنواع الثواب الذى جعله لقراءته بوجه عام إلى جانب ما جعله لسور واَيات مخصوصة. ولا يجوز مطلقا أن يتعاقد على أجر فى مقابل هذه القراءة، كالصلاة، وإلا حُرِمَ ثواب الله، حيث قصد بالقراءة غير وجه الله. لكن لو قدمت له هدية من أجل تكريمه وتشجيعه على الطاعة فلا مانع من قبول الهدية، للترغيب فى قبولها، على شرط ألا يكون متطلَّعا لها عند قراءته.

وفى مثل هؤلاء المتاجرين بالقراءة والمرائين والمتسولين به يقول الحديث الذى رواه أحمد " اقرءوا القراَن ولا تغْلُوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " والغلُوُّ فيه والجفوة عنه هو فى التطبيق، مغالاة فى التمسك أو تقصيرا وجفوة له، والأكل به هو أخذ المقابل له كسلعة تباع، والاستكثار به يكون بالرياء والتفاخر والتعالى، وذلك على بعض ما شرح به الحديث، وكذلك فى مثل هؤلاء يقول الحديث الذى رواه أحمد والترمذى " اقرءوا القراَن واسألوا اللَّه به، فإن من بعدكم قوما يقرءون القراَن يسألون به الناس " وكذلك أحاديث أخرى تقبل فى فضائل الأعمال، هذا وقد جاء فى كتاب " الحاوى للفتاوى" للسيوطى:

لو قال شخص لاَخر: اقرأ لى كل يوم ما تيسر من القراَن واجعل ثوابه لى أو لفلان الميت، وجعل له على ذلك مالا معلوما ففعل، فهل يكون ثواب القراءة لهذا الشخص أو يكون له مثل الثواب، وهل يبقى للقارىء ثواب أم لا، وما الحكم لو كانت القراءة بدون مقابل، بل كانت تبرعا؟ جاء فى الجواب: أن هذه القراءة جائزة إذا شرط الدعاء بعدها والمال الذى أخذه القارى هو من باب الجعالة، والجعالة هنا على الدعاء لا على القراءة، فإن ثواب القراءة للقارئ ولا يمكن نقله للمدعو له، وإنما يقال: له مثل ثوابه فيدعو بذلك ويحصل له إن استجاب اللَّه الدعاء، وكذلك حكم القارئ بدون مقابل. ثم قال السيوطى:

من يقرأ ختمات من القران بأجرة هل يحل له ذلك؟ وهل يكون ما يأخذه من الأجرة من باب التكسب أو الصدقة؟ وأجاب بقوله: نعم يحل له أخذ المال على القراءة والدعاء بعدها، وليس ذلك من باب الأجرة ولا الصدقة، بل من باب الجعالة، فإن القراءة لا يجوز الاستئجار عليها، لأن منفعتها لا تعود إلى المستأجر.

لما تقرر فى مذهبنا - الشافعية - من أن ثواب القراءة للقارىء لا للمقروء له، وتجوز الجعالة عليها إن شرط الدعاء بعدها، وإلا فلا، وتكون الجعالة على الدعاء لا على القراءة، هذا مقتضى قواعد الفقه. انتهى.

٢ - أما الذى يعلِّم القرآن للحفظ والتجويد أو للوعظ والتعليم للدين، فله أجر من اللَّه إن قصد به وجهه دون رياء أو طلب مقابل دنيوى، والنصوص كثيرة فى الترغيب فى التعليم، منها حديث "خيركم من تعلم القرآن وعلمه " رواه البخارى ومسلم وحديث " يا أبا ذر، لأن تغدو فتعلم آية من كتاب اللَّه خير لك من أن تصلى مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلِّم بابا من العلم، عمل به أو لم يعمل خير لك من أن تصلى ألف ركعة" رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

وحديث الثلاثة الذين هم أول من تُسَعَر بهم النار يوم القيامة، ومنهم رجل تعلم العلم وقرأ القرآن من أجل أن يقال إنه عالم وقارئ، وقد استوفى بذلك ما أراد فى الدنيا ولم يَعُدْ له ثواب عند الله، فيؤمر به ويسحب على وجهه ويلقى فى النار رواه مسلم وغيره، وينظبق عليهم قول اللَّه تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نُوَفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} هود:

١٥، ١٦،. أما أجر الدنيا على تعليم القرآن والوعظ به، فينظر فيه، فإن كان واجبا على القائم به لحاجة المتعلم إليه لمعرفة ما يجب عليه ولا يوجد غير هذا المعلم فأختار ألا يستحق عليه أجرا وألا يساوم على هنا الأجر، لأن الواجب الدينى ثوابه وأجره عند الله فقط، والتقصير فيه يستوجب العقوبة، أما إن كان التعليم غير واجب فلا مانع من أخذ الأجر عليه، لأنه أمر اختيارى لا عقوبة فى التقصير فيه. وفى كلتا الحالتين - وجوب التعليم وعدم وجوبه - لو أعطيت للمعلم هدية غير مشروطة وغير مساوم عليها فلا مانع من قبولها، بل يُسنُّ قبولها كأية هدية أخرى وكذلك لو خصص بيت المال أو جهة ما مبلغا من المال يدفع للقائمين بذلك تشجيعا لهم على التفرغ لهذا العمل وعدم انشغالهم عنه بواجب كسب عيشهم بزراعة أو تجارة مثلا، وعملهم هذا جهاد فى سبيل الله بمعناه الواسع غير القاصر على حمل السلاح لمواجهة العدو. وقد ورد فى ذلك حديث أُبَىَّ بن كعب قال: علَّمت رجلا القرآن فأهدى لى قوسا، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال " إن أخذتها أخذت قوسا من نار " فرددتها. رواه ابن ماجه، ورواه غيره بألفاظ أخرى جاء فيها أنه كان يأكل أيضا من طعام من علَّمه، وأن الرسول أجازه إن كان طعاما عاديا لأهل هذا الرجل وليس خاصا به. وفى هذا الحديث كلام يضعف الاحتجاج به، وبخاصة على الحرمة، وتوضيح ذلك يرجع، إليه فى نيل الأوطار للشوكانى " ج ٥ ص ٣٠٣".

ويستدل على جواز أخذ مقابل لتعليم القرآن فى حالة عدم وجوبه بما أخرجه البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم أجاز أن يكون الصداق فى الزواج تعليم الزوجة شيئا من القرآن. يقول الشوكانى بعد ذكر أحاديث النهى عن الأكل بالقرآن والسؤال به وعن أخذ القوس وتناول الطعام عند صاحبه: إنه قد استدل بها من قال: لا تحل الأجرة على تعليم القرآن وهو أحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة والهادوية، وظاهره عدم الفرق بين أخذها على تعليم من كان صغيرا أو كبيرا، وقالت الهادوية: إنما يحرم أخذها على تعليم الكبير، لأجل وجوب تعليمه القدر الواجب وهو غير متعين، ولا يحرم على تعليم الصغير لعدم الوجوب عليه. وقال: وذهب الجمهور إلى أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن، وأجابوا كل عن أحاديث المنع بأجوبة منها -إلى جانب الضعف - أن الرسول علم من أُبي بن كعب أنه فعل ذلك خالصا لوجه اللَّه فكره أخذ العوض عليه، وأما من علَّم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به، وأن حديث تحريم السؤال به غير أخذ الأجر على تعليمه، وحديث منع الأكل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما يدفعه المتعلم بطيب نفس. وحاول الشوكانى ردَّ هذه الأجوبة بأسلوب يدل عل تحمسه لمذهب من حرم أخذ الأجرة، كما حاول الرد على حديث البخارى فى جواز أن يكون تعليم القرآن صداقا فى الزواج وهو أجر، بعدة ردود منها أنه خاص بهذين الزوجين وليس عاما، بناء على حديث سعيد بن منصور الذى جاء فيه " لا يكون لأحد بعدك مهرا ".

هذا، وما دام الجمهور قد أجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وبخاصة إذا كانت بسخاء نفس تشبه الهدية فلا مانع من أخذ هذا المقابل، مع الوصية بعدم الحرص الشديد عليه وإيثار ثواب الله على أجر الدنيا، هذا وقد جاء فى تفسير القرطبى "ج ١ ص ٣٣٤ " لقوله تعالى {ولا تشتروا باَياتى ثمنا قليلا} البقرة:

٤١، أن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك. ثم قال: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببنى إسرائيل فهى تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل فى مقتضى الاَية. وقد روى أبو داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة " يعنى ريحها. ثم قال القرطبى: وقد اختلف العلماء فى أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية وما كان فى معناها، فمنع ذلك الزهرى وأصحاب الرأى فقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن تعليمه واجب من الواجبات التى يحتاج فيها إلى نية التقرب والإِخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام، وقد قال تعالى {ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا} وروى ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين (١) " وعن أبى هريرة فى المعلمين " درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء" وروى عبادة بن الصامت أنه علَّم ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إليه رجل منهم قوسا رأى أنها ليست بمال وأنه يرمى بها فى سبيل اللَّه، فسأل الرسول عن ذلك فقال " إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها". وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء، لحديث البخارى " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللَّه " وهو نص يرفع الخلاف فينبغى أن يعول عليه. ثم قال القرطبى:

وأما ما احتج به المخالف، من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لأنه فى مقابل النص، ثم إن بينهما فرقانا، وهو أن الصلاة والصيام عبادات مختصة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولته النقل، كتعليم كتابة القرآن. قان ابن المنذر: وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة، ويجوِّز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم، فيجوز الإِجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة. وأما الجواب عن الآية فالمراد بها بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ فيه خلاف، وهو لا يقول به. وجواب ثان وهو أن تكون الآية فيمن تعيَّن عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا، فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة فى ذلك، وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته، ويجب على الإِمام أن يعين لإِقامة الدين إعانته، وإلا فعلى المسلمين، لأن الصدِّيق رضى الله عنه لما ولى الخلافة وعُيِّن لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق، فقيل له فى ذلك، فقال: ومن أين أنفق على عيالى؟ فردوه وفرضوا له كفايته. وأما الأحاديث فليس شىء منها يقوم على ساق، ولا يصح منها شىء عند أهل العلم بالنقل، أما حديث ابن عباس فرواه سعد بن طريف عن عكرمة عنه، وسعيد متروك. وأما حديث أبى هريرة فرواه على بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبى جرهم عنه، وأبو جرهم مجهول لا يعرف، ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم. وإنما رواه عن أبى المهزِّم وهو متروك الحديث أيضا، وهو حديث لا أصل له، وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلى عن عبادة بن نُسىِّ عن الأسود بن ثعلبة عنه، والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكن له مناكير، هذا منها، قاله أبو عمر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم، لأنه روى عن عبادة من وجهين، وروى عن أُبى بن كعب من حديث موسى بن على عن أبيه عن أبى، وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، وحديث عبادة وأبى يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علَّمه لله ثم أخذ عليه أجرا، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير الناس وخير من يمشى على جديد الأرض المعلمون، كلما خلق الدين - صار قديما - جددوه، أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم، فإن المعلم إذا قال للصبى: قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصبى بسم الله الرحمن الرحيم كتب اللَّه براءه للصبى وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار". انتهى ما قاله القرطبى، لكنه لم يذكر درجة هذا الحديث، وهو إن كان ضعيفا يعمل به فى فضائل، الأعمال. يتلخص من هذا، أن الأجر على تعليم القرآن جائز إن لم يتعين عليه، وكذلك إن تعين عليه لكنه مشغول بتحصيل قوته فيجعل له بيت المال أو المسلمون ما يجعله متفرغا للتعليم، ثم قال القرطبى " ص ٣٣٧": واختلف العلماء فى حكم المصلى بأجرة، فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر فى رمضان يقوم للناس - صلاة التراويح وقيام الليل - فقال: أرجو ألا يكون به بأس، وهو أشد كراهة له فى الفريضة. وقال الشافعى وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعى: لا صلاة له، وكرهه أبو حنيفة وأصحابه.

٣- أما أصحاب الأصوات الحسنة الذين يقصدون من قراءتهم إدخال السرور على السامعين، سواء كانت المناسبة أفراحا وأعيادا أم عزاء مثلا، مع التزام كل الآداب المطلوبة من القراء والسامعين، إن كانت هناك مساومة على الأجر يمكن أن ينطبق عليه حديث النهى عن الأكل والتسول به، وعن الاستكثار والتفاخر بالصوت الجميل، لأن العمل ليس تعليما للقرآن ولا تعليما للدين به، بل مجرد قراءة لا يقصد بها وجه اللَّه عند بعضهم، فهى قربة كالصلاة لا تطلب بها الدنيا ماديا ولا أدبيا، أما إذا لم تكن مساومة وأعطيت كهدية فلا مانع من قبولها، وقد يثاب دافعها إن قصد بها تكريم القرآن وحامله إن كان غنيا، أو مساعدته إن كان محتاجا للمساعدة. وإن قصد بقراءة القرآن علاج مريض، كالرقى التى أجازها النبى صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من اشتراط الأجر وقبوله. وقد جاء النص على هذه الحالة فى حديث رواه البخارى عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن فى الماء رجلا لديغا أو سليما؟ فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شياه - أى في مقابل شياه - فجاء بالشاه إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب اللَّه أجرا؟ حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول اللَّه أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللَّه " وجاء فى رواية اخرى أن الراقى طلب أجرا لأن القوم أبوا أن يضيفوهم وكانوا فى حاجة إلى الضيافة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه " قد أصبتم، اقتسموا واضربوا لى معكم سهما، وضحك، وذلك مبالغة فى تأنيسهم، واللديغ يطلق عليه أيضا السليم من باب التفاؤل، وحاول المانعون من أخذ الأجرة الرد على هذا الحديث بأنه منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال، بل لابد له من دليل، كما ردوا بأن الأجر فيه هو على الرقية لا على التلاوة والتعليم، أما الأجر على التعليم فهو ممنوع. ولا يخفى ما فى هذا من تعسف لا داعى له، فكل منفعة تقدم للغير يجوز أخذ مقابل لها ما دامت مشروعة وغير تمتعينه أما أتمتعينه كالزكاة فليس لها مقابل مادى ممن أخذها، لأنها حقه كما قال سبحانه {وفى أموالهم حق للسائل والمحروم} الذاريات: ١٩،. هذا هو خلاصة ما أخذته من الأحاديث الواردة فى أخذ الأجر على القرآن، تلاوة أو تعليما أو إفادة بطريق مشروع، وقد رأينا خلاف الفقهاء فى جواز الأخذ ومنعه، وما دام الأمر خلافيا فلا يجوز التعصب لرأى، مع التوصية بالمحافظة على جلال القرآن والاهتمام بثواب الله سبحانه. ويعجبنى ما ختم به صاحب " منتقى الأخبار " الذى شرحه الشوكانى، الأحاديث الواردة فى الموضوع، وهو يميل إلى المنع، فقال بعد ذكر حديث رقية الرجل اللديغ، وقد صح أن النبى صلى الله عليه وسلم زوج امرأة رجلا على أن يعلمها سورا من القرآن. ومن ذهب إلى الرخصة لهذه الأحاديث حمل حديث أبى وعبادة - المانعين - على أن التعليم كان قد تعين عليهما، وحمل فيما سواهما من الأمر والنهى على الندب والكراهة، يعنى على عدم الوجوب والحرمة. هذا، وأما قراءة القرآن من أجل نفع الميت بها، ففيها خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناء على أنها عبادة بدنية لا تقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة اللَّه وما ورد من بعض النصوص، ومن تتبع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلى:

٤- ١ -إذا قرى القرآن بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مرجو، سواء أكان معها إهداء أم لم يكن، وذلك بحكم المجاورة، فإن القرآن إذا تلى، وبخاصة إذا كان فى اجتماع، حفت القارئين الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه يقرءون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة " والقرآن ذكر بل أفضل الذكر، وقد روى مسلم وغيره حديث " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر فى جماعة، فيحصل ذلك للشخص الواحد. روى البخارى ومسلم حديث أسيد بن حضير الذى كان يقرأ القرآن فى مربده وبجواره ولده وفرسه، وجاء فيه:

فإذا مثل الظلة فوق رأسى، فيها أمثال السرج عرجت فى الجو حتى ما أراها، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (تلك الملائكة تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم) . على أن النص قد جاء بقراءة " يسو~ " عند الميت، روى أحمد وأبو داود والنسائى، واللفظ له، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " قلب القرآن يس، ولا يقرؤها رجل يريد اللَّه والدار الآخرة إلا غفر الله له، اقرأوها على موتاكم ". وقد أعل الدارقطنى وابن القطان هذا الحديث، لكن صححه ابن حبان والحاكم، وحمله المصححون له على القراءة على الميت حال الاحتضار، بناء على حديث فى مسند الفردوس " ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ". لكن بعض العلماء قال: إن لفظ الميت عام لا يختص بالمحتضر، فلا مانع من استفادته بالقراءة عنده إذا انتهت حياته، سواء دفن أم لم يدفن، روى البيهقى بسند حسن أن ابن عمر استحب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن. فابن حبان الذى قال فى صحيحه معلقا على حديث " اقرءوا على موتاكم يس " أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه، رد عليه المحب الطبرى بأن ذلك غير مسلم له وإن سلم أن يكون التلقين حال الاحتضار.

قال الشوكانى: واللفظ نص فى الأموات، وتناوله للحى المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة " نيل الأوطار ج ٤ ص ٥٢ ".

والنووى ذكر فى رياض الصالحين تحت عنوان: الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة " الباب الحادى والستون بعد المائة " ذكر أن الشافعى قال: يستحب أن يقرأ عنده شىء من القرآن، وإن ختموا القرآن كان حسنا. وجاء فى المغنى لابن قدامة " ص ٧٥٨": تسن قراءة القرآن عند القبر وهبة ثوابها، وروى أحمد أنه بدعة، ثم رجع عنه. وكره مالك وأبو حنيفة القراءة عند القبر حيث لم ترد بها السنة. لكن القرافى المالكى قال: الذى يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده.

٢ -إذا قرىء القرآن بعيدا عن الميت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء فى جواز انتفاع الميت به، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه: الحالة الأولى: إذا قرأ القارئ ثم دعا الله بما قرأ أن يرحم الميت أو يغفر له، فقد توسل القارئ إلى اللَّه بعمله الصالح وهو القراءة، ودعا للميت بالرحمة، والدعاء له متفق على جوازه وعلى رجاء انتفاعه به إن قبله اللَّه، كمن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم فانفرجت عنهم الصخرة التى سدت فم الغار. وفى هذه الحالة لا ينبغى أن يكون هناك خلاف يذكر فى عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.

الحالة الثانية: إذا قرأ القارىء ثم دعا الله أن يهدى مثل ثواب قراءته إلى الميت.

قال ابن الصلاح: وينبغى الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أى مثله، فهو المراد، وأن يصرح به لفلان، لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعى فما له أولى، ويجرى ذلك فى سائر الأعمال. ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعى يدعو الله أن يرحم الميت: والرحمة ليست ملكا له بل للَّه، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهى ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها.

وكذلك يجوز فى كل قربة يفعلها الحى من صلاة وصيام وصدقة، ثم يدعو بعدها أن يوصل اللَّه مثل ثوابها إلى الميت. وقد تقدم كلام ابن قدامة في المغنى عن ذلك. والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قول المجيزين: اللهم أوصل ثواب ما قرأته لفلان. الحالة الثالثة: إذا نوى القارئ أن يكون الثواب، أى مثله، للميت ابتداء أي قبل قراءته أو فى أثنائها يصل ذلك إن شاء الله، قال أبو عبد اللَّه الأبى: إن قرأ ابتداء بنية الميت وصل إليه ثوابه كالصدقة والدعاء، وإن قرأ ثم وهبه لم يصل، لأن ثواب القراءة للقارىء لا ينتقل عنه إلى غيره.

وقال الإِمام ابن رشد فى نوازله: إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز وحصل للميت أجره، ووصل إليه نفعه، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة أو معها أو بعدها، ولعله يريد ما قاله الأبى. هذا، وانتفاع الميت بالقراءة مع الإِهداء أو النية هو ما رآه المحققون من متأخرى مذهب الشافعى، وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذى للقارىء أو على قراءته لا بحضرة الميت ولا بنية ثواب قراءته له، أو نيته ولم يدع له، وفد رجح الانتفاع به أحمد وابن تيمية وابن القيم. وقد مر كلامهم فى ذلك. قال الشوكانى " نيل الأوطار ج ٤ ص ١٤٢ ": المشهور من مذهب الشافعى وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعى إلى أنه يصل، كذا ذكره النووى فى الأذكار. وفى شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفا على استجابة الدعاء. وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجرى فى سائر الأعمال. والظاهر أن الدعاء متفق عليه أن ينفع الميت والحى، والقريب والبعيد، بوصية وغيرها، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب.

انتهى. هذا، وقد قال الأبى: والقراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغى إهمالها، فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور مغيبة عنا، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر هل يقع كذلك أم لا. وأنا مع الأبى فى هذا الكلام، فإن القراءة للميت إن لم تنفع الميت فهى للقارئ، فالمستفيد منها واحد منهما، ولا ضرر منها على أحد. مع تغليب الرجاء فى رحمة الله وفضله أن يفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما. وهذا الخلاف محله إذا قرئ القرآن بغير أجر، أما إن قرى بأجر الجمهور على عدم انتفاع الميت به، لأن القارئ أخذ ثوابه الدنيوى عليها فلم يبق لديه ما يهديه أو يهدى مثل ثوابه إلى الميت، ولم تكن قراءته لوجه اللَّه حتى يدعوه بصالح عمله أن ينفع بها الميت، بل كانت القراءة للدنيا. ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مساومة أو اتفاق سابق على الأجر أو معلوم متعارف عليه، أما الهدية بعد القراءة إذا لم تكن نفس القارئ متعلقة بها فقد يرجى من القراءة النفع للميت والأعمال بالنيات، وأحذر قارئ القرآن من هذا الحديث الذى رواه أحمد والطبرانى والبيهقى عن عبد الرحمن بن شبل (اقرأوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به) قال الهيثمى: رجال أحمد ثقات، وقال ابن حجر فى الفتح:

سنده قوى. وفسر الأكل به بأخذ الاجرة عليه، كما فسره بالاستجداء به والتسول. وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف فى أخذ الأجرة على قراءة القرآن: مذهب الحنفية لا يجوز أخذها على فعل القرب والطاعات كالصلاة والصوم وتعليم القرآن وقراءته، ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أمورا، منها تعليم القرآن، فقالوا بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانا، خشية ضياعه، ولكن بقى حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تقرر فى أصل المذهب من عدم الجواز. ومذهب الحنابلة لا يجوز أخد الأجرة على تعليم القرآن ولا على قراءته، استنادا إلى حديث " اقرءوا القرآن. . . " الذى تقدم..

ومذهب المالكية لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوب شرعا كالصلاة والصيام، ولكن يجوز أخذ الأجرة على ما يقبل النيابة، ومنه تعليم القرآن وقراءته، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، سواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة عنه، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت. انتهى "الزرقانى ج ٥ ص ٤٠٦ "

<<  <  ج: ص:  >  >>