للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عظمة القرآن]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

نريد توضيح قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} ؟

الجواب

تجىء هذه الآية فى نهاية سورة الحشر التى تتحدث عن إجلاء بنى النضير عن المدينة المنورة، وهم إحدى أسر من أهل الكتاب الذين كان يؤمل فيهم أن يكونوا من أول المصدَّقين بالقران الذى نزل على الرسول الذى كانوا ينتظرونه ويقرءون أوصافه فى كتبهم، لكنهم حسدًا وبغيا كفروا كما قال سبحانه: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عوفوا كفروا به} [البقرة: ٨٩] ومع تكذيبهم للقرآن والرسول تعاونوا مع كفار مكة على مقاومة الدعوة، وقد أذاق الله كفار مكة وبال أمرهم فى بدر كما أذاق بنى النضير عاقبة أمرهم {كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم} [الحشر:

١٥] وهكذا لا يدفع شخص عن آخر فكل يتحمل تبعة عمله {كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما فى النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} [الحشر: ١٦، ١٧] والواجب على كل إنسان أن يسيطر على نزغات الشيطان وهوى النفس ولا يعمل للدنيا فقط بل يعمل حساب المسئولية يوم القيامة {يا أيها الذين آمنوا اتقو الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} {لايستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: ١٨، ٩ ١، ٠ ٢] .

كان الواجب على الناس جميعا، وقد جاءتهم الرسالة العامة، أن ينظروا فى الكتاب المنزَّل على هذا الرسول نظرة منصفة موضوعية بعيدة عن التعصب والهوى، ومن خلال هذه النظرة سيكون لكل منهم رأى فيه، وسيقتنع تماما بصدقه ويسارع إلى العمل بما فيه، لكن اكثر الناس تتغلب عليهم أهواؤهم، ويضف عقلهم امام شهواتهم، فيعارضون الحق لذات المعارضة دون سبب معقول، مع أن هذا القرآن، وهو من عند الله، لو نزل على جبل أعطاه الله عقلا، لتأثر كل التأثر ولم يملك إلا الإيمان بالله الذى أنزله، وبالرسول الذى بلغه، إن هذه القوة الجبارة لا بد أن تخشع وتذل وتضف، بل لا بد أن تتمزق وتتصدع ويتلاشى كبرياؤها عند سماع القرآن، كما يقول سبحانه {ولو أن قرآنا سيرِّت به الجبال أو قطِّعت به الأرضى أو كلِّم به الموتى بل لله الأمر جميعا} [الرعد: ٣١] ولكن الإنسان بعناده وتسلط شيطانه لم يتأثر بروعة القرآن وعظمة من انزله، ومن قبل القرآن لم يتأثر أسلاف بنى النضير، والحديث عنهم موضوع السورة، من الآيات المنزلة على الأنبياء قبل كما قال سبحانه فيهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: ٧٤] .

إن الآية تدعو الجميع إلى أن يستقل كل إنسان بالنظر إلى القرآن بعيدا عن إغواء داخلى أو خارجى، وبالنظر المنصف سيخشع العقل ويخشع القلب وتخشع الجوارح، سيخشع العقل عندما يعرف الإعجاز الذى نزل به القرآن فيؤمن عن صدق بأنه ليس من عند محمد بل من عند الله، وسيؤمن بالله من خلال ما فيه من آيات وأخبار صادقة وهداية حكيمة، كما يقول سبحانه {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:٢٤] وكما قال {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: ٨٢] وقد أوشك بعض كبار قريش أن يؤمن عندما أخذ بروعة ما تلى عليه،فقال:

إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر. ولكن المؤثرات القوية التى تحيط به ضيعت ما تأثر به عند سماع القرآن، وقد كان بعضهم، وقد تعاهدوا على معارضة الدعوة، يتسرب خفية لسماع القرآن فيعود متأثرا، ولكن التعصب جعلهم كما يقول القرآن الكريم {كالأنعام بل هم أضل} وبالإقبال على القرآن يخشع العقل أيضا وهو يستخرج كنوزه ويجلَّى هدايته، فيرى فيه دستورا كاملا للحياة الطيبة، ويحس فيه روعة التشريع وإحكامه، كما يحس تقديره لكرامة الإنسان وإعداده لطور جديد من حياته البشرية يحقق به الخلافة فى الأرض، ومن هنا كان حث الرسول عليه الصلاة والسلام على تعلم القرآن ونشر هدايته فيقول " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " رواه البخارى ومسلم ويقول فى حديث رواه الترمذى وغيره وحسَّنه " يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلى مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلى ألف ركعة ".

وكما يخشع العقل يخشع القلب والوجدان، فيستقر الإيمان بالله ويقوى كلما قرئ القرآن، ويرق الوجدان والعواطف كلما كثرت قراءته أو سمعت آياته تتلى، كما يقول سبحانه {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلو الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: ٢٣] إن أول أثر يروع الإنسان هو الدهشة والقشعريرة، وعند التأمل والانتقال بين فقراته من وعيد إلى وعد، ومن آية إلى آية يطمئن القلب ويألف هذا الجو الجديد كما يقول سبحانه {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} [الأنفال: ٢] وليس الإنسان وحده هو الذى يتأثر لكلام الله تلاوة واستماعا فقد تأثرت به الملائكة ونزلت تستمع إليه من أُسيد بن حضير وهو يقرؤه ليلا، حتى إن فرسه التى كانت بجواره اضطربت لما أحست بما فى الجو من نور ومواكب غريبة عليه، وقد قال عنها الرسول الكريم كما ثبت فى الحديث الشريف: إنها الملائكة نزلت تستمع القرآن، ولو قرأ حتى يأتى الصباح لأمكن رويتها، وهو ترغيب للمؤمنين فى كثرة تلاوته، وبالإنصات له عند سماعه وعدم الانشغال عنه بلهو الحديث، فتلاوته تجارة لن تبور، وبكل حرف منه عشر حسنات، والمنزلة فى الجنة بقدر ما يقرأ منه كما صح فى الحديث:" يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق كما كنت تقرأ فى الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقروها " رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه، وقال الترمذى: حسن صحيح.

وكما يخشع العقل المفكر والقلب المتأثر تخشع الجوارح بالعمل، وخشوعها بالعمل يكون من منطلق الإيمان بالله وبالقرآن المعجز وبما فيه من هداية هى المثالية فى كل مجال من مجالات النشاط البشرى، كما يقول سبحانه: {إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم} [الإسراء: ٩] وكما كان النبى صلى الله عليه وسلم يعمل، فقد كان خلقه القراَن، تلقيا وتعليما وتبليغا وعملا وتطبيقا، وبهدايته المثالية والحرص على تطبيقها تكونت أمة كانت خير أمة أخرجت للناس، قوة وتماسكا وحضارة ومدنية، ولم يفارق رسول الله الدنيا إلا بعد أن أوصانا بالتمسك به حتى لا نضل " إنى تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدى أبدا، كتاب الله وسنتى" رواه الحاكم وصححه،فهو حبل الله المتين، ومن يعتصم به فقد هُدى إلى صراط مستقيم.

والغاية من تدبر القرآن والخشوع له تقوية إيماننا بالله، وإسعاد الإنسان فى دنياه وأخراه، والله الذى أنزل القرآن هو الموصوف بعد هذه الآية بالوحدانية والرحمة والملك والتقديس والسلامة من كل نقص والمصدق لرسله بآياته، والمسيطر على الكون كله بقدرته وعلمه، والعزيز الذى لا يذل، والمتعالى عن كل نقص، والخالق للعالم والمبدع له على غير مثال سبق والمصور له كيف يشاء ويختار، والموصوف بكل كمال، فكيف يشرك المشركون به آلهة ليس لها هذا الكمال؟ إن الكون كله يسبح لله بالتوحيد والطاعة، وما أظلم لإنسان وأجهله إذ وقع تحت تأثير غرائزه وشهواته، فيا أمة محمد أناديكم بما نادانا به رب العزة {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: ١٦]

<<  <  ج: ص:  >  >>