للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الدواجن التى تتغذى بالنجاسات]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ما حكم أكل الطيور والحيوانات التى تتغذى على النجاسات؟

الجواب

ثار الجدل فى هذه الأيام حول لحم الدجاج الذى يضاف إلى علفه بعض المواد النجسة أو الكيماوية التى تسرع نموها وتزيد حجمها أو وزنها، وكان محور الجدل فى نقطتين، إحداهما صحية والأخرى دينية.

وقد اختلف ذوو الاختصاص والخبرة فى تأثير ذلك على صحة الإنسان، ما بين مثبت للضرر، وبخاصة فى علاقته بالفشل الكلوى والسرطان، وناف لهذا الضرر، وبخاصة بهذه الصورة الرهيبة، مع إشارة بعضهم إلى أن ما يمكن أن يكون من ضرر فهو ليس بهذا الحجم الذى يحرم تناول هذه اللحوم.

ومبدئيا نقول: مادام لم يجزم أهل الذكر بوجود الضرر البيِّن الذى يؤثر تأثيرا بالغا بالصحة والمال والعقل وسائر ما حاطه الإسلام بالرعاية من أجل تأدية الإنسان وظيفته فى الحياة على الوجه المطلوب، فلا وجه للقول شرعا بمنع تناوله لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فما دامت العلة، وهى الضرر المذكور غير محققة فالأصل فى الأشياء الحل، فإن تحققت كان المنع، وقد جاء الشرع لتحقيق المصلحة ومنع المفسدة، والله سبحانه يقول {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة:١٩٥ والنبى صلى الله عليه وسلم يقول فى الحديث " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه والدارقطنى وغيرهما مسندا:

ورواه مالك فى الموطأ مرسلا، كما قال النووى فى متن " الأربعين حديثا النووية " وقال: حديث حسن.

وعلماء الإسلام تحدثوا عن هذا الموضوع من قديم الزمان بناء على نصوص وردت فى ذلك منها:

١ - عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس.

أخرجه الدارقطنى والحاكم والبيهقى، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البيهقى: ليس بالقوى.

٢ - عن ابن عمر أيضا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها، رواه الخمسة إلا النسائى. وقال الشوكانى " نيل الأوطار ج ٨ ص ١٢٨ ": حسَّنه الترمذى، واختلف فيه على لد ابن أبى نجيح " فقيل:

عن مجاهد عنه، وقيل: عن مجاهد مرسلا، وقيل: عن مجاهد عن ابن عباس.

٣ - عن ابن عباس رضى الله عنهما: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلاَّلة، رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذى، وقال الشوكانى:،وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقى، وصححه أيضا ابن دقيق العيد، ولفظه: وعن الجلالة وشرب ألبانها.

٤ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحومها رواه أحمد والنسائى وأبو داود- وقال الشوكانى: أخرجه أيضا الحاكم والدارقطنى والبيهقى، وفى الباب عن أبى هريرة مرفوعا، وفيه النهى عن الجلالة، قال فى التلخيص: إسناده قوى.

هذا بعض ما ورد عن الجلالة، والكلام فى هذا الموضوع يدور حول تعريف الجلالة ومناط النهى، ودرجة هذا النهى وما ينبغى أن يتخذ حيالها. وما هو المنهى عنه منها.

أ- فالجلالة هى كل ما يتناول العَذِرَة - بكسر الذال - والأرواث، مأخوذ من الجَلَّة-بفتح الجيم -وهى البعرة، وهى تشمل الإبل والبقر والغنم والدجاج والأوز وغيرها من كل ما يتناول هذه المواد.

قال العلماء: ولا يطلق عليها وصف الجلاَّلة إلا إذا كان غالب علفها من النجس، كما جزم به النووى فى تصحيح التنبيه، يقول الخطابى: فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب، وكانت تتناول مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة، وإنما هى كالدجاج المخلاّة ونحوها من الحيوان الذى ربما نال الشىء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره، فلا يكره أكلها، وجاء فى حياة الحيوان الكبرى للدميرى " مادة سخلة " قوله واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فقال الرافعى عن " تتمة التتمة ": إنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة، فإن كان يوجد فى مرقتها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قلَّ فالموضع موضع النهى، وإلا فلا، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن موضع النهى ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة، فأما إذا كانت الرائحة التى توجد يسيرة فلا اعتبار بها، والصحيح الأول، إلحاقا لها بالتغير اليسير بالنجاسة فى المياه:

فإن علفت الجلالة علفا طاهرا مدة حتى طاب لحمها وزالت النجاسة زالت.الكراهة، ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن، بل المعتبر زوال الرائحة بأى وجه كان.

ب - يؤخذ من هذا أن مناط النهى هو وجود رائحة النجاسة وتغير اللحم أو اللبن أو البيض، وذلك تابع فى الغالب إلى كثرة ما تعلف به الدابة من النجاسة أو قوة تأثيره، يقول الدميرى: ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير فى لحمها فلا تحريم ولا كراهة، ويقول القرطبى فى تفسيره "ج ٧ ص ١٢٢" بعد ذكر الجلالة: هذا نهى تننزيه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهى العذرة وجدنتن رائحتها فى لحومها.

ب - فإذا وجدت الرائحة أو تغير اللحم طعما وقال العلماء بمنع تناول لحمها وما ينتج عنه. فما هى درجة هذا المنع هل هى الحرمة أو الكراهة؟ يقول الشوكانى: والنهى حقيقة فى التحريم فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها، وقد ذهبت الشافعية إلى تحريم أكل لحم الجلالة، وحكاه فى البحر عن الثورى وأحمد بن حنبل، وقيل: يكره فقط، كما فى اللحم المذكى إذا أنتن قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لو غذَّى شاة عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره، وهذا أحد احتمالى البغوى.

قال الدميرى فى السخلة المرباة بلبن كلبة أن لها حكم الجلالة، فيكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح فى الشرح الكبير والروضة والمنهاج، وبه جزم الرويانى والعراقيون. وقال أبو إسحاق المروزى والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام الغزالى والبغوى والرافعى فى المحرر.

ثم قال الدميرى: وسئل سحنون "من فقهاء المالكية "عن خروف أرضعته خنزيره فقال: لا بأس بأكله، وقال الطبرى: العلماء مجمعون على أن الجَدى إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيره لا يكون حراما ولا خلاف فى أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة، وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس، كذا قاله أبو الحسن على بن خلف بن بطال القرطبى فى شرح البخارى [ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وهو أحد شيوخ أبى عمرو بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه] انتهى ما فى الدميرى.

د - وإذا كان المنع من أكل لحم الجلالة وشرب لبنها منوطا بوجود النتن والتغير فى الطعم والرائحة، فكيف تزول هذه العلة حتى يزول المنع؟ قال جماعة: يكفى زوال الرائحة والطعم بأية وسيلة من الوسائل، وقال آخرون: لابد من حبس الدابة مدة حتى تزول الرائحة. وقال جماعة من هؤلاء لابد مع الحبس من العلف الطيب، وبدون ذلك يكره أكل اللحم وشرب اللبن، جاء فى تفسير القرطبى: وقال أصحاب الرأى والشافعى وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها، - يعنى غير الجلة - فإذا طاب لحمها أكلت. وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح، وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا، وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة، وكذلك مالك بن أنس.

ويقول القرطبى: ومن هذا الباب نهُى أن تلقى فى الأرض العذرة عن ابن عمر أنه كان يكرى أرضه ويشترط ألا تُدْمن - تُسَمَّد - بالعذرة، وروى أن رجلا كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذى تطعم الناس ما يخرج منهم. انتهى.

يقول الدميرى فى كتابه حياة الحيوان " مادة دجاج " وفى الكامل والميزان فى ترجمة غالب بن عبد الله الجزرى وهو متروك -عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك. وذكر فى مادة " سخلة " حديث ابن عمر فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس.

وجاء فى" نيل الأوطار "للشوكانى: قال ابن رسلان فى شرح السنن: وليس للحبس مدة مقدرة، وعن بعضهم: فى الإبل والبقر أربعين يوما، وفى الغنم سبعة أيام، وفى الدجاج ثلاثة، واختاره فى المهذب والتحرير، قال الإمام المهدى فى البحر: فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة ... وقد اختلف فى طهارة لبن الجلالة، فالجمهور على الطهارة، لأن النجاسة تستحيل فى بلطنها، فيطهر بالاستحالة، كالدم يستحيل فى أعضاء الحيوانات لحما ويصير لبنا.

ويقول الدميرى فى " مادة سخلة " بعد نقل ما قيل عن مدة الحبس وأنها محمولة على الغالب عندهم: فإن لم تعلف لم يزُل المنع بغسل اللحم بعد الذبح.ولا بطبخه وشَيَّه وتجفيفه فى الهواء وإن زالت الرائحة بمرور الزمان عند صاحب التهذيب، وقيل بخلافه.

ر- هذا، والممنوع فى الجلالة بوصف كونها جلالة، هو أكل لحمها وشرب لبنها وكذلك أكل البيض، وأيضا حمل الأمتعة عليها، وركوبها بغير حائل بين ما يحمل عليها وبين جلدها، وذلك على سبيل الكراهة فى الركوب.

بعد العرض لأحاديث الجلالة وأقوال العلماء نستخلص أن الدواب التى يخلط علفها بمادة نجسة ولم يظهر فساد فى لحمها أو لبنها أو بيضها، ولا ضرر فى تناوله لا يحرم أكل ذلك ولا يكره، لزوال علة النهى وهى الفساد، أما إن كان علفها كله من مادة نجسة وظهر فساد اللحم واللبن والبيض فالخلاف موجود بين الحكم بالحرمة أو الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية، وإن لم يكن فساد فلا حرمة، والأولى علفها بمادة طيبة مدة من الزمان حتى تقبل النفس عليها، فإن بعض النفوس لا تقبل الحلال الذى لا شك فى حله، فقد امتنع النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الضب وهو حلال، وجاء فى الصحيحين أنه قيل له: أحرام هو؟ قال " لا، ولكنه لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه " وفى رواية مسلم " لا آكله ولا أحرمه " وفى رواية " كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامى ". وكلام الأطباء والمختصين فى هذا المقام له وزنه إن أجمعوا عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>