للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الإمام وسلطة الشعب]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

هل يجوز الخروج على الحاكم الذى لا يحكم بالشريعة الإسلامية، وما حكم من يخرج على السلطان بالسلاح؟

الجواب

هذه المسألة من الفقه السياسى، وهى شائكة إلى حد كبير، فقد كان لها دورها الخطير فى انقسام الجماعة الإسلامية ونشأة الفرق والأحزاب، وهى فى هذه الأيام بالذات أشد خطرا، لأن الأوضاع فى أكثر الدول الإسلامية لا تحكمها الشريعة حكما كاملا، سواء أكان ذلك فى طريقة تولى الإمامة أم فى الدستور الذى تحكم به. وبيان حكم الشرع فى فرع يكون أصله الأساسى غير شرعى هو ترقيع، أو على الأقل لا يكون له أثر عملى فى تغيير الواقع، ذلك أن القوانين المستمدة من دستور وضعى ترى ما يخالفها خروجا على نظام الدولة وفيه إخلال بالأمن أو خيانة للوطن ... والعقوبة قد تكون الإعدام.

والنظرات السياسية قديما وحديثا كان لها أثرها البارز فى تأويل النصوص وحملها على ما يؤيدها، بل كان لها أثرها أيضا فى وضع أحاديث وافترائها على النبى صلى الله عليه وسلم وبالأولى إلصاق أقوال وآراء بأئمة هم برآء منها، وكذلك أنكر المختلفون أحاديث صحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم لأنها تعارض رأيهم السياسى، وقبلوا أحاديث تؤيد مذاهبهم بغض النظر عن صدق نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

والكتب المؤلفة فى مذاهب هذه الفرق السياسية كثيرة، والكتب الحديثة التى أحيت هذه المذاهب القديمة، وتبناها بعض الجماعات متوافرة أيضا، ولهذا سيكون أى رأى فى الإجابة على السؤال المطروح محل نزاع وجدل.

ومهما يكن من شىء فإنى سأعرض بعض النصوص عند أهل السنة المعتدلين وما قاله العلماء فيها دون التعرض لنقدها، أو ترجيح بعضها على بعض.

ا- قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} النساء: ٥٩.

٢ -عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان، رواه البخارى ومسلم. والبواح بضم الباء هو الصراح بضم الصاد الذى جاء فى رواية الطبرانى، وهو أيضا البراح بضم الباء وبالراء بدل الواو الذى جاء فى بعض الروايات، المراد به الظاهر البين الذى تشهد له النصوص ولا يقبل التأويل.

٣-روى البخارى ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" ومعنى ميتته جاهلية مثلها، لأنهم كانوا على ضلال وليس لهم إمام مطاع إذ كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرا، بل يموت عاصيا، هكذا قالوا فى تفسيرها.

٤ -روى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعى قول النبى صلى الله عليه وسلم "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قال: قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة،ألا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئا من معصية الله فليذكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" والصلاة فى الحديث معناها الدعاء، والمنابذة نزغ البيعة، أخذا من قوله تعالى {فانبذ إليهم على سواء} أى أعلمهم بنقض العهد بينك وبينهم.

٥ -روى مسلم عن حذيفة بن اليمان قول النبى صلى الله عليه وسلم "يكون بعدى أئمة لا يهتدون بهديى، ولا يستنون بسنتى، وسيقوم منكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس " قال فقلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال "تسمع وتطيع وإن ضُرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " وفى الحديث إشارة إلى الثورات المغرضة التى يراد بها المصلحة الشخصية لا العامة. وفيه أمر بعدم الاشتراك فيها.

٦-روى مسلم عن عرفجة الأشجعى قول النبى صلى الله عليه وسلم "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه " أى اقتلوا الثائر على الحاكم.

هذه هى بعض النصوص التى يصعب على ذوى الميول الثورية استساغة بعض ما فيها من عبارات، وقد استنتج العلماء منها أنه لا يجوز منابذة الأئمة والخروج عليهم ما داموا يقيمون للصلاة، وليس المراد أنهم يصلون بالناس كما كان أئمة السلف، بل المراد أنهم يسمحون بإقامتها ولا يضعون العراقيل فى سبيلها.

وحديث عبادة بن الصامت يدل على أنه لا تجوز المنابذة إلا عند ظهور الكفر الواضح الذى ليس له فيه شبهة. كإنكار الألوهية أو الطعن فى أن القرآن من عند الله، أو أنه غير صالح للحكم، أو اعتقاد حل ما أجمع على تحريمه كالربا والزنى وشرب الخمر. . فهو بهذا الاعتقاد يكون كافرا، أما ارتكاب المحرمات بغير اعتقاد حلها فهو عصيان لا يخرج به إلى الكفر، بل يكون فاسقا، فالمبرر للخروج عليه هو الكفر لا العصيان المجرد لكن النووى قال: المراد بالكفر هنا المعصية (فتح البارى ج ١٦ ص ١١٤) وقال غيره: المراد بالإثم فى بعض الروايات ما يشمل المعصية والكفر. قال ابن حجر: والذى يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة فى الولاية، فلا ينازعه بما يقدح فى الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح فى الولاية نازعه فى المعصية، بأن ينكر عله برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف. ومحل ذلك إذا كان قادرا، وعلى ضوء ما قاله ابن حجر إن فسق الإمام ولم يكفر وجب نصحه بالأسلوب الذى يُرجى منه الخير ولا يؤدى إلى فتنة، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم التى هى أحسن} النحل:١٢٥، وكان للسابقين أسلوب فى الإنكار يتناسب مع الظروف القائمة إذ ذاك، مع مراعاة أن روح التدين كانت موجودة بقوة فى الحاكمين والمحكومين، وهو ما أطمع بعض المعارضين فى القسوة أحيانا عند النصح، وما جعل الحكام يصيخون إلى ما يقولون، فهم نواب الشعب ومفاتيح السيطرة عليه، ومن الحكمة قبول ما يوجهونهم به وإن كان فى بعض الأساليب عنف سببه شدة الغيرة على الحق.

ومن الأساليب السليمة فى توجيه الحاكم، التى تقرها القوانين الوضعية الحالية، الخطابة والصحافة وإثارة الموضوع فى مجالس النيابة والتنظيمات المشروعة. والخير مرجو إذا كان ذوو اللسان والقلم مخلصين لوجه الله، وكان ممثلو الأمة مختارين على أساس دينى سليم، ومؤدين لأمانتهم على الوجه المطلوب.

أما الخروج بالسلاح لتغيير المنكر فهو غير مجد فى أكثر الدول الإسلامية، التى تضع مهمة التغيير والإصلاح على عاتق ممثلى الأمة، والتى تحرم حمل السلاح وتمنع التظاهر العنيف وتضع له اقسى العقوبات، لا يجدى هذا الخروج بالسلاح بوجه خاص إذا كان التسلح غير كاف، وقوى المواجهة غير متكافئة، فإن القضاء على الثائرين بغير حكمة سهل، والنتيجة أخطر مما كان يتوقعون.

ولو تحققت المنعة وتوافر السلاح المتكافئ فالطريق السليم هو التفاوض والحوار كما يقول التعبير الحديث، حيث يكون حوارا فيه تكافؤ قد يؤدى إلى الحل المعقول. وذلك كله من أجل منع الفتنة أو بعبارة حديثة "منع الحرب الأهلية" من جراء المواجهة بالسلاح وإراقة الدماء، وقد يذهب ضحيتها أبرياء، فشرط تغيير المنكر-كما قال العلماء -ألا يؤدى إلى منكر أشد.

فإن لم يتوصل إلى حل بالحوار والنصح فإن الأحاديث لا تجيز المواجهة المسلحة وليكن الواجب هو الإنكار باللسان إن أمكن، وإلا فالإنكار بالقلب، والاجتهاد فى تربية الشعب لاختيار ممثلين صالحين يتولون "دستوريا" تغيير المنكر. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأكثر المعتزلة والروافض يرون جواز الخروج على السلطان والوزير، فإذا أخذ ربع دينار ظلما لا تجوز طاعته عندهم.

إن عرض الجواب على السؤال المذكور بهذه الصورة، ربما لا يرضى بعض المتحمسين لفكرة معينة، أو منهج خاص فى تعديل الأوضاع الفاسدة، ولكن واجب النصح يفرض علينا أن ننبه إلى وجوب تقدير الظروف المحيطة بنا الآن، وإلى أن العدو المتربص بنا لا يترك فرصة ثورية إلا انتهزها لنفسه، وإلى أن ارتباط بعض الحكام ببعض الدول الكبرى سيقضى على مثل هذه الحركات بسهولة، لأن صحوة الدين تضرهم، وبخاصة دين الإسلام، كما يجب أن تراعى أن قوة المسلمين الحربية بوسائلها الحديثة ليست كقوتهم وأننا لسنا مستقلين تمام الاستقلال عنهم، فإن كل وسائل التغيير أو أكثرها ما زالت محتكرة لهم.

ولا ينبغى أن يحمل هذا التوجيه على أنه من باب التخذيل، بل يجب أن تكون خططنا للإصلاح مدروسة دراسة وافية، لتكون حركات التغيير مرجوة النجاح بأقل تضحيات.

ومن الخير بعد هذا أن أسوق بعض النقول:

ا - جاء فى فتح البارى لابن حجر: نقل ابن التين عن الداوادى قال:

الذى عليه العلماء فى أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر، وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا فى جواز الخروج عليه، والصحيح المنع، إلا أن يكفر، فيجب الخروج عليه.

وجاء فى الكتاب نفسه: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته فى ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها، وجاء فى الكتاب المذكور. ينعزل بالكفر إجماعا،. فيجب على كل مسلم القيام بذلك، فمن قوى على ذلك فله الثواب، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض.

أقول بعد هذا النقل: إن ارتباط الخروج بالكفر يجب فيه الدقة فى الحكم بالكفر على المسلم فإن تكفير المسلم خطير، ومن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، وليس كل تصرف منه يبرر الحكم عليه بالكفر، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء الله.

كما أقول: إن نظرة العلماء فى الخروج على الإمام الجائر، مع اعتمادها على النصوص، مبنية على اعتبار الظروف وواقع المسلمين فى عهود بعض الفقهاء، وعلى كل حال فنظرتهم ترشدنا إلى أن نكون على بصيرة عند إصدارنا للأحكام الخطيرة بالذات، وإلى القيام بحركات الإصلاح.

٢ - يقول الشوكانى فى نيل الأوطار: إن الذين خرجوا على الأئمة الظَّلمة أخذوا بمعلومات الكتاب والسنة من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا شك أن الأحاديث المذكورة مخصصة لتلك العمومات، وهى متواترة المعنى، ولكن لا ينبغى أن يحط من قدر السلف الخارجين على أئمة الجور، فقد كان ذلك باجتهاد منهم، كما لا ينبغى الركون إلى جمود الأحاديث كما فعل الكرامية والعيب على من قاوموا الظالمين. اهـ.

هذا، وأكرر التنبيه إلى وجوب التخطيط السليم لكل حركة إصلاح، وعدم اللجوء إلى العنف إن أمكن الوصول إلى الهدف سلميا، وإلى إتيان البيوت من أبوابها، وإلى أن القول المأثور "كما تكونون يولى عليكم " يحتم علينا إصلاح أنفسنا أولا ليكون من نرتضيهم ممثلين لنا، ومن يرتضونه حاكما علينا صالحين لأداء واجبهم ومحلا للرجاء فيهم، ولعل دراسة الحركات الإصلاحية فى المجتمع الإسلامى دراسة واعية، توصلنا إلى رسم الطريق الأمثل للإصلاح. والله ولى التوفيق

<<  <  ج: ص:  >  >>