للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أسرى الحرب]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

يشكو الناس كثيرا من سوء معاملة الأسرى فى الحروب، حتى الحروب التى تقع بين المسلمين بعضهم مع بعض، نريد معرفة هدى الدين فى ذلك؟

الجواب

يقول الله تعالى {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يُثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} الأنفال:

٦٧-٦٩.

ويقول: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مَنًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} محمد: ٤.

ويقول {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا} الأحزاب: ٢٦ صياصيهم: حصونهم.

نزلت هذه الآيات فى المدينة، والآية الأولى نزلت فى غزوة بدر، والثانية قيل: نزلت قبلها وقيل بعدها، والثالثة نزلت فى غزوة الأحزاب. ومعنى "يثخن فى الأرض" يكثر القتل ويبالغ فيه، ومعنى "عرض الدنيا" ما كان يريده البعض من الفداء بالمال، ولم يقصد به النبى صلى الله عليه وسلم ولا كبار الصحابة، ومعنى {لولا كتاب من الله سبق} سبق حكمه بأنه لا يعذب أحدا إلا بعد نهيه، لولا ذلك لعذبتكم، ثم أحلَّها الله فقال {فكلوا مما غنمتم حلالا} وقيل فى المعنى: لولا سبقكم بالإيمان بالكتاب وهو القرآن الذى استحققتم به الصفح والعفو، أو لولا أنه سبق فى اللوح المحفوظ أنه حلال لكم لعوقبتم. بل قال البعض:

إن هذه الآية ليس فيها إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها تعنى: ما كان لنبى قبلك أن يكون له ذلك، ولكنك خصصت بجوازه، كما فى الحديث الشريف "أحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى".

على أن الآية الثانية قد بررت ما فعله الرسول من اختياره بعد المشاورة رأى أبي بكر فى أخذ الفداء حيث تقول {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} وأقر الله النبى والصحابة على ما أخذوه، وأنزل تطييبا لبعض الأسرى الذين كانوا يريدون القتال بعد أن أخذ منهم الفداء {يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} الأنفال:

٧٠.

ومما ورد من الأحاديث فى شأن الأسرى أن النبى صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فى أسارى بدر فأشار عليه أبو بكر رضى الله عنه بأن يأخذ منهم فدية يتقوى بها المسلمون ويطلقهم، لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر رضى الله عنه:

أرى أن تمكَنَّا منهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر، فمال الرسول إلى رأى أبى بكر، فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله يبكى هو وأبو بكر، فقال: من أى شى تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبكى للذى عرض علىَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علىَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة.." وأنزل الله {ما كان لنبى ... } وقد تكلم العلماء فى أى الرأيين أصوب فرجحت طائفة قول عمر، بدليل هذا الحديث ورجحت طائفة أخرى قول أبي بكر، وذلك لاستقرار الأمر عليه وموافقته للكتاب الذى سبق من الله بإحلال ذلك لهم،ولموافقته للرحمة التى غلبته الغضب،ولتشبيه الرسول لأبى بكر فى ذلك بإبراهيم عليه السلام إذ قال {فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم} إبراهيم: ٣٦ وبعيسى عليه السلام فى قوله {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} المائدة: ١١٨ كما شبه عمر فى رأيه بنوح عليه السلام فى قوله {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} نوح: ٢٦ وبموسى عليه السلام فى قوله {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} يونس: ٨٨.

وبكاء النبى صلى الله عليه وسلم كان رحمة لنزول العذاب على من أراد بذلك وجه الدنيا، والرسول لم يرد هو ولا أبو بكر وجه الدنيا، ولكن العذاب لو نزل فسيعم الجميع.

وقد ثبت من الأحاديث والتاريخ الموثوق به أن النبى صلى الله عليه وسلم سلك مع الأسرى عدة طرق:

١ - فمنهم من أمسكه وضرب عليه الرق، سواء أكانوا من أولاد العرب أم من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.

٢ -ومنهم من أمر بقتله، مثل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وذلك لشدة عداوتهما للنبى صلى الله عليه وسلم وكان ذلك فى رجوعه من غزوه بدر، وقال "لو كان المطعم بن عدى حيًّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنَى لتركتهم له " وكيهود بنى قريظة.

٣-ومنهم من فداه بالمال، كعمه العباس فى غزوة بدر، وقد استأذنه الأنصار أن يترك له فداءه، فقال "لا تدعوا منه درهما" كما رواه البخارى.

٤ - ومنهم من جعل فداءه عملا يؤديه للمسلمين، كبعض أسرى بدر الذين افتدوا أنفسهم بتعليم أولاد الأنصار الكتابة، وكان منهم زيد ابن ثابت.

٥ -ومنهم من مَنَّ عليه الرسول بغير مقابل، كأبى العاص بن الربيع زوج ابنته زينب وأبى عزة الجمحى الذى تركه بدون مال لما ذكر له كثرة بناته، وسبى هوازن ردَّهم بعد القسمة للغنائم واستطاب قلوب الغانمين فطيبوا له -أى وافقوا- ومن لم تطب نفسه بذلك عوَّضه بكل إنسان ستًّا من الأنعام فى الزكاة.

٦ - وثبت أنه صلى الله عليه وسلم بادل أسرى المسلمين بأسرى الكفار، فقد استوهب من سلمة بن الأكوع جارية نفلها إياه أبو بكر فى غزوة فزارة كما رواه مسلم -فوهبها له، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسا من المسلمين، وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل.

وأسر ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة، فربطه فى سارية المسجد ثم أطلقه فأسلم،كما رواه مسلم، كما هبط عليه فى صلح الحديبية سبعون متسلحون يريدون غِرته فأسرهم ثم منَّ عليهم.

وإزاء هذه المرويات من فعل النبى صلى الله عليه وسلم اختلف الفقهاء فى الأسرى، فذهب الجمهور ومنهم الشافعي -إلى أن الإمام مخيَّر فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كبعض أسرى بدر، وإن شاء منَّ بلا شىء وإن شاء استرقَّ من أسر. غير أن الأوزاعى وسفيان ومالكا يكرهون أخذ المال من الأسير، لما فى ذلك من تقوية العدو بالرجال.

وهذا التخيير متروك للإمام ليفعل ما فيه المصلحة، وقد روى عن على أن جبريل أمر النبى أن يخيِّر أصحابه فى الأسارى، إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء. ولكن الإمام أبا حنيفة يقول: إن التخيير قد نُسخ، والحكم الآن هو: إما القتل وإما الاسترقاق.

ويقول مجاهد من علماء التابعين: ليس اليوم منٌّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق.

ومنشأ الخلاف فى التخيير وعدمه هو آية {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فلما منًّا بعدُ وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} فقال أبو حنيفة: إن الحرب هنا فى الآية هى بدر، فالمن والفداء هو فى بدر فقط، وأما بعدها فالحكم هو القتل أو الرق، فالغاية على هذا هى للمن والفداء حتى يكون الحكم منسوخا، فإن جعلت الغاية للإثخان وشد الوثاق - أى القتل والأسر- كان المراد بالحرب جنسها، يعنى أى حرب كانت، لكن الجمهور يرى أن الغاية هى للمن والفداء مع إرادة جنس الحرب.

وقال العلماء أيضا: إن من أسلم قبل الأسر لم يسترق -أى لا يضرب عليه الرق -وأن النبى صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر لم يفد بمال، بل كان يمن أو يفادى أسيرا بأسير.

هذا وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم بالأسرى خيرا، فقد ثبت أنه لما وزع الأسرى على الصحابة قال لهم "استوصوا بالأسرى خيرا" ويقول أحدهم -وهو أبو عزير بن عمير- كنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصُّونى بالخبز وأكلوا التمر، لوصية الرسول إياهم بنا. وكان الفداء ما بين ١٥٠٠، ٤٠٠٠ درهم كما يراه الرسول من حال الأسير.

هذا هو الحكم فى الأسرى من الكفار، أما أسرى الحروب بين المسلمين فلا تنطبق عليهم كل هذه الأحكام وبخاصة القتل والاسترقاق، والواجب معاملتهم بالحسنى فإن كثيرا منهم أو أكثرهم مضطر إلى خوض المعركة، لصرامة القوانين العسكرية.

"زاد المعاد لابن القيم فى باب الجهاد، وشرح الزرقانى على المواهب اللدنية فى غزوة بدر، وسيرة ابن هشام فى غزوة بدر، وشرح النووى على صحيح مسلم فى كتاب الجهاد وكتب التفسير والفقه

<<  <  ج: ص:  >  >>