للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحكمة والدبلوماسية]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ذكرت كلمة الحكمة فى القرآن كثيرا، وقال بعض المعاصرين إنها تلتقى مع الدبلوماسية المعروفة الآن. فهل هذا صحيح؟

الجواب

الحكمة المذكورة فى القرآن لها عدة معان، تختلف بحسب المواضع العشرين التى ذكرت فيها، يقول الراغب الأصفهانى " ٥٠٢هـ " فى مفرداته: الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذى وصف به لقمان فى قوله عز وجل {ولقد آتينا لقمان الحكمة} لقمان: ١٢، ونبه على جملتها بما وصفه بها، فإذا قيل فى الله تعالى: هو حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وصف به غيره. ومن هذا الوجه قال الله تعالى {أليس الله بأحكم الحاكمين} التين: ٨ وإذا وصف به القرآن فلتضمنه الحكمة نحو {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} يونس: ١ وعلى ذلك قال تعالى {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة} القمر: ٤، ٥.

ثم ذكر النسبة بين الحكم والحكمة، بأن الحكم أعم، فكل حكمة حكم وليس كل حكم حكمة، وجاء فى التفاسير أقوال كثيرة فى معنى الحكمة، ولا شك أن من معانيها وضع الشىء فى موضعه، فهى فى الرأى سداد، وفى القول صواب، وفى الفعل استقامة والشخص الذى عنده هذه المعانى يكون موفقا وسعيدا فى دنياه وأخراه كما قال تعالى {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} البقرة: ٢١٩ ومنهم الأنبياء ومن على شاكلتهم.

وقد تلتقى مع الدبلوماسية فى هذا المعنى، وإن كانت مقاييس الدبلوماسية غير مقاييس الدين، ولعل من تقارب معناهما قوله تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن} النحل: ١٢٥ ومقومات الحكمة فى الدعوة مبسوطة فى كتابنا " الدين العالمى ومنهج الدعوة إليه " وكتابنا " الدعوة الإِسلامية دعوة عالمية ".

ولتمام التوضيح للعلاقة بين الحكمة والدبلوماسية ألخص هنا كلمة عنها للسيد / على سلطان سفير قطر فى القاهرة نشرت بجريدة البلاغ الكويتية فى ٤ / ٨ / ١٩٧٤ جاء فيها: أن الدبلوماسية لفظ مشتق من اللفظ اليونانى " دبلوما" أى الوثيقة أو الشهادة التى تطوى على نفسها، والتى كانت تصدر عن الشخص الذى بيده السلطة العليا فى البلاد، وتخوِّل حاملها امتيازات خاصة.

ولم تدخل هذه اللفظة فى المعجم الدولى إلا منذ أواسط القرن السابع عشر، عندما حلت محل لفظة " المفاوضة " وتطور مدلولها مع الزمن وأصبح يشير إلى معان مختلفة:

١ -إما للدلالة على النهج السياسى فى زمن معين، فيقال مثلا:

تطورت الدبلوماسية العربية فى القرن الحالى، وصارت غير ما كانت عليه فى القرن الماضى.

٢ -وإما للدلالة على اللباقة التى يتحلى بها شخص ما بالنسبة إلى علاقاته مع الغير، فيقال مثلا: فلان عنده دبلوماسية رفيعة.

٣ -وإما للدلالة على المفاوضات وما يتبعها من مراسم، فيقال:

هذه المعضلة تحتاج إلى حل دبلوماسى.

٤ - وإما للدلالة على مهنة السياسى الذى يقوم -على حد تعبير الأستاذ أرنست ساتو- بمهمة التوفيق بين مصالح بلاده ومصالح البلاد المعتمد لديها، وهذا المعنى هو السائد الآن.

والدبلوماسية تحتاج إلى استخدام الذكاء واللباقة فى إدارة دفة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول المستقلة، ولذلك ينصحون الدبلوماسى بأن يكون قليل الكلام كثير الإِصغاء، حتى إذا اضطر إلى التعليق أو الإِجابة كان رأيه سديدا، لأنه بعد تفكير عميق. لقد كان "ميترنيخ " يتقن سبع لغات، ومع هذا فقد قيل عنه: إنه يتقن الصمت فى اللغات السبع.

وعند التفاوض يعرض الموضوع تدريجيا، ويقف عند الحد الذى يعرف فيه استعداد محدِّثه ودرجة قبوله لما يعرضه، وعندئذ يغير مجرى الحديث بالنسبة لما شاهده على وجه محدثه من استحسان أو استهجان. ومن المهم أن يعرض المفاوض أفكاره على مراحل، بحيث يجزئ الصعوبة ويحصل على موافقة الطرف الآخر على مختلف الأجزاء تباعا.

ومن المتعارف عليه فى لغات الدبلوماسيين: إذا قال الدبلوماسى: نعم، يعنى بذلك ربما، وإذا قال: ربما يعنى بذلك: كلا، وإذا قال: كلا يكون قد تخلى عن اللغة الدبلوماسية.

قال أحد الظرفاء: اكتشفت فن خداع الدبلوماسيين، ذلك أننى أتكلم الصدق، ومع ذلك أراهم لا يثقون فى قولى، وقال آخر:

الدبلوماسى هو الرجل الذى يفطن لعيد ميلاد السيدة ولكنه ينسى السن الذى بلغته.

هذا، ومظاهر الدبلوماسية فى الإِسلام التى تلتقى مع الحكمة فى مفهومها كثيرة، وميادينها متعددة، فهى تكون مع الرجل في بيته ومعه فى جيرانه ومعه فى أصدقائه، ومعه فى رؤسائه، ومعه فى المجتمع كله وتكون على المستوى الفردى والجماعى والدولى، وتوضيح ذلك يطول، ويمكن الرجوع إليه فى معالجة كل موضوع على حدة.

وبخاصة موضوع المداراة والكنية والتعريض

<<  <  ج: ص:  >  >>