للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[التقية]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ما معنى التقية وهل هى حلال أو حرام؟

الجواب

١ -التقية والتقاة والتقوى ألفاظ مأخوذة من مادة " وقى " عند من يقول:

الأصل فى الاشتقاق هو الفعل، فكلمة " تقية " اسم مصدر للفعل "اتقى " أصله " اوتقى " ومثلها كلمة "تقاة " أصلها "وقية " مثل تؤدة وتهمة، قلبت الواو تاء والياء ألفا، جاء فى الصحاح "والتقاة التقية يقال: اتقى تقية وتقاة.

قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران: ١٥٢، وجاء فيه اتقى يتّقى، وتقى يتقى كقضى يقضى.

والتقوى والتقى واحد. وأصل المادة المنع، كالذى يتقى البرد بالملابس، ويتقى عذاب الله بالطاعة، ويتقى سهام العدو بالدرع، والتقية بهذا هى اتخاذ ما يمنع المكروه، أو هى الشىء الذى يتخذ لمنع المكروه، جاء فى التقية قوله تعالى {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة. . .} آل عمران: ٢٨، قرأها جابر ابن زيد ومجاهد والضحاك " تقية " وقد نزلت فى عبادة بن الصامت الأنصارى وكان بدريا تقيا، وكان له حلف من اليهود، فلما خرج النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبى الله، إن معى خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معى فأستظهر بهم على العدو. والمعنى: لا يجوز للمؤمنين أن يتخذوا من الكافرين أولياء يناصرونهم إلا إن كانوا فى حاجة إليهم ويتقون بذلك شرهم.

٢ - فالتقية يحتاج إليها عند الحاجة أو الضرورة، وصورها ابن عباس بأن يتكلم الإنسان بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان. على غرار ما جاء فى قوله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا. . .} النحل:

١٠٦، وقد نزلت فى عمَّار بن ياسر حين أخذه المشركون وأباه وأمه وعذبوهم وقتلوا أباه وأمه لأنهم لم يعطوهم ما أرادوا من الكفر، ولكن عمارا أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال له "كيف تجد قلبك قال: مطمئن بالإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم " فإن عادوا فعد " وفى مجال الإيمان والكفر قالوا: لا تجوز إلا عند خوف القتل أو قطع جزء من الإنسان أو الإيذاء العظيم. وهل التقية فى هذا المجال انتهت أو باقية؟ قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية فى جدَّة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم. ومفهوم ذلك أنها جائزه عند ضعف المسلمين، ومن هنا قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة.

٣-والأمور التى يكره الإنسان على فعلها لدفع الضرر هى فى أصلها ممنوعة ولكن الله أباحها للضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات كما هو معروف، قال تعالى بعد ذكر المحرمات {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} البقرة: ١٧٣، وقال {وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام: ١١٩.

وقد قال العلماء: الرخصة فى التقية تكون بالقول كالنطق بكلمة الكفر وكالكذب، لكن لو أرغم على فعل محرم لينجو من الضرر، كالسجود لغير الله أو قتل مسلم أو الزنى.. . هل يحل له ذلك؟ أجمعوا على أنه لو أكره على قتل غيره بدون وجه حق فلا يجوز له قتله، لأنه فدى نفسه بغيره. أما لو أكره على الزنى وغيره من الكبائر فقد اختلف فيه، قال ابن العربى: الصحيح أنه يجوز الإقدام عليه ولا يعاقب بالحد فى الزنى مثلا، وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان أقيم عليه الحد ثم قال المحققون:إذا تلفظ المكره بكلمة الكفر فلا يجوز أن يجريها على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب، والتعريض يكون بكلمة تحتمل أكثر من معنى، يرضى العدو فى الظاهر بأحد معانيها ويقصد بقلبه المعنى الاخر الجائز. ومثلوا لذلك بماء إذا قيل له: اكفر بالنبى، فيقول:

أكفر بالنبى، ويريد المكان المرتفع وهكذا.

٤- وهذا يجرنا إلى الحديث عن بعض أساليب التقية، وهى المداراة، ومعناها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، بخلاف المداهنة التى هى بذل الدين لصلاح الدنيا، والمداراه جائزة والمداهنة ممنوعة، يقول الطرطوشى فى سراج الملوك "ص ٢٧٩":

من دارى سلم، ومن داهن أثم. قال تعالى فى المداهنة {ودُّوا لو تدهن فيدهنون} القلم: ٩، نزلت حين قالت قريش للنبى صلى الله عليه وسلم:

اعبد آلهتنا سنة ونؤمن بك، فأبى، قالوا: اعبدها شهرا، فأبى، قالوا:

اعبدها يوما، فأبى، قالوا: استلمها بيدك، فوقف النبى وطمع إن فعل أن يؤمنوا، فأنزل الله الآية، وقيل له {ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.. .} الإسراء: ٧٤، ٧٥، ثم قال الطرطوشى: قال النبى صلى الله عليه وسلم فى المداراة " رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس، وأمرت بمداراة الناس كما أمرت بأداء الفرائض "وهذا حديث ضعيف رواه ابن أبى الدنيا، والديلمى فى الفردوس، وروى مثله الطبرانى وابن عدى والبيهقى.

جاء فى المواهب اللدنية للقسطلانى "ج ١ ص ٢٩١" وشرحه للزرقانى "ج ٤ ص ٢٥٥ " أن البخارى ومسلما أخرجا عن عائشة رضى الله عنها أن رجلا استأذن على النبى صلى الله عليه وسلم، وأنا عنده، فلما رآه قال بعد أن أذن له وفتح الباب " بئس أخو العشيرة " فلما جلس تطلق يعنى أبدى له طلاقة وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل انبسطت فى وجهه فقال " يا عائشة، متى عهدتينى فحَّاشا، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " وهذا الرجل هو عيينة بن حصن الفزارى، وكان يقال له الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد.

ثم نقل القسطلانى عن القرطبى أن المداراة التى هى بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا أو هما معا مباحة وربما استحسنت فكانت مستحبة أو واجبة، فالنبى بذل له من دنياه حسن العشرة والرفق فى مكالمته ومع ذلك لم يمدحه بقول، فلم يناقض فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن عشرة.

قال القاضى عياض: لم يكن عيينة حينئذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى أن يبين ذلك حتى لا يغتر به من لم يعرفه، وكانت إلانة القول له على سبيل الاستئلاف.

وجاء فى إحياء علوم الدين للغزالى "ج ٢ ص ١٨٣"فى حقوق المسلم: ومنها أنه إذا بُلى بذى شر فينبغى أن يتحمله ويتقيه، قال بعضهم: خالص المؤمن مخالصة، وخالق الفاجر مخالفة، فإن الفاجر يرضى بالخلق الحسن فى الظاهر، وقال أبو الدرداء: إنا لنبسم فى وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم، وهذا معنى المداراة، وهى مع من يخاف شره، قال الله تعالى {ادفع بالتى هى أحسن السيئة} المؤمنون: ٩٦، قال ابن عباس فى معنى قوله {ويدرءون بالحسنة السيئة} الرعد: ٢٢، القصص: ٥٤، أى الفحش والأذى بالسلام والمداراه، وقال فى قوله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} البقرة ٢٥١، الحج: ٤٠، قال بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة.

فالتقية بالمداراة حكمة وسياسة وكياسة، ولكن بقدر لا يخدش الدين، ذكر الغزالى فى الإحياء "ج ٣ ص ١٣٨ " بعد أن ذكر الدخول على الأمراء ومدحهم ثم ذمهم إذا خرجوا من عندهم، إن هذا نفاق ما دام هناك استغناء عن الدخول إليهم، فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز. وذلك كلام أبى الدرداء المتقدم.

وذكر فى "ج ٢ ص ١٦١ " أن من حق الأخوة أن ينهاه عن المنكر، وذلك فى السر، وليس على الملا لأنه توبيخ وفضيحة، ثم قال: إن الفرق بين التوبيخ والنصيحة هو فى السر والإعلان، كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث. على الإغضاء عن عيوب غيرك، فإذا أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن.

والمأثور فى هذا الموضوع كثير، ويمكن الرجوع إليه فى كتاب أدب الدنيا والدين ص ٧٨ ١، العقد الفريد لابن عبد ربه ج ١ ص ١٦٨، ٢١٤، ٢١٥، ج ٣ ص ٩٢، ومقال الشيخ محمد الخضر حسين بمجلة الأزهر مجلد ٢ ص ١٤٧.

٥ - ومن أساليب التقية الكذب، ومعلوم أن الكذب حرام، لكن يرخص فيه للمصلحة التى قصرها بعض العلماء على ما ورد فى الحديث، وهو الكذب فى الحرب فالحرب خُدعة، وفى إصلاح ذات البين، وفى الكذب بين الزوجين فى مثل الحب من أجل دوام العشرة. وأجازه بعضهم عند نيل مرغوب فيه لا سبيل إليه إلا به مع عدم الضرر بالغير، أو فى دفع مكروه عن الشخص أو عن آخر فى عرض أو مال أو نفس.

ومن المأثور فيه إذن النبى صلى الله عليه وسلم لمن قتلوا كعب بن الأشرف أن يقولوا ما شاءوا " زاد المعاد" ومنه كذب ابن علاط لما قدم مكة ليأخذ ماله "زاد المعاد- غزوة خيبر " ومنه كذبات إبراهيم الثلاثة: {بل فعله كبيرهم} {إنى سقيم} وقوله عن زوجته إنها أخته لينقذها من ظلم فرعون "مصابيح السنة ج ٢ ص ١٥٧".

يقول ابن الجوزى: كل مقصود محمود لا يتوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا، وواجب إن كان واجبا، جوز بعضهم الحلف بالله لإنجاء مسلم من القتل ظلما كما حلف سويد ابن حنظلة أن وائل بن حجر أخوه ليخلصه من عدو له عندما خرجوا يريدون النبى على ذلك " غذاء الألباب للسفارينى ج ١ ص ١١٧ " ويمكن الرجوع إلى الإحياء "ج ٣ ص ١١٩ " لمعرفة ما يجوز فيه الكذب.

وللتخلص من الكذب لاتقاء الشر يمكن اللجوء إلى المعاريض كما تقدم ذكره، وتوضيحه فى الإحياء "ج ٣ ص ١٢١".

٦-هذا، والتقية أصل من أصول الدين عند الشيعة، يظهرون بها خلاف ما يبطنون، حفاظا على أنفسهم، ولعل من اَثارها اختفاء الإمام الثانى عشر والزعم أنه دخل فى سرداب حتى يظهر فى آخر الزمان باسم المهدى المنتظر، والتقية أيضا مسلك للدروز ليعيشوا فى أمن مع غيرهم، ودخائل نحلتهم لا يعلم الكثير منها، ولا يطلع عليها إلا خاصتهم وهم الشيوخ العقَّل.

وهى تستعمل فى ميادين كثيرة، والمهم أنها لا تصادم أصلا مقررا فى الدين، ويتوصَل بها إلى غرض مشروع وفى أضيق الحدود

<<  <  ج: ص:  >  >>