للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأخذ بالثأر]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

انتشرت عادة الأخذ بالثار فى كثير من البلاد، وتوارثتها الأجيال وانفردت بها بعيدا عن أعين المسئولين، فما حكم الدين فى ذلك؟

الجواب

حق الحياة من أقدس الحقوق إن لم يكن أقدسها، والاعتداء عليه بالقتل جريمة من أشد الجرائم نكرا، وأكبرها خطرا، فهو يؤدى إلى يتيتم الأطفال وترمل النساء وإشاعة الفوضى والاضطراب، وهو فى حقيقته تحدٍّ لشعور الجماعة وخروج على آداب الاجتماع، والحياة بدون احترام لحقوق المجتمع أشبه بحياة الحيوانات التى تسيرها غرائزها وتتصرف كيف يشاء هواها.

وقد أجمعت العقول السليمة واتفقت الأديان كلها على استنكار الاعتداء على حياة الغير بدون حق، قال تعالى عقب قصة اعتداء ولد آدم قابيل على أخيه هابيل {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} المائدة: ٣٢.

وفرضت عقوبة صارمة للمعتدين، وهى القصاص من القاتل جزاء وفاقا بما فعل، أو عوض يرضى به أهل القتيل.

والقصاص شريعة سماوية نزلت بها الكتب الأولى، قال تعالى فى شأن التوراة التى نزلت على موسى عليه السلام وكانت شريعة اليهود {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص.. .} المائدة: ٤٥.

والعرب قبل الإسلام كانوا يتمسكون بمبدأ القصاص من القاتل، مبررين ذلك بقولهم: القتل أنفى للقتل، وقد حملهم على هذا الموقف ما طبعوا عليه من إباء الضيم وعدم الرضا بالهون، فكانوا يرون الاعتداء على الحيلة من أشد ما يجرح فيهم هذا الشعور، كما أنهم كانوا يباهون بعدد القبيلة، يفاخرون بالأولاد ويتكاثرون بالرجال ويرون الاعتداء على واحد منهم اعتداء على القبيلة كلها، يوهن قوتها ويضعف هيبتها بين القبائل الأخرى، فيهبون جميعا للأخذ بثأره، لا يكاد يتخلى عن ذلك إنسان حتى لا يوصم بالجبن الذى يرونه عارا ما بعده عار، ومن قولهم فى ذلك:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم * فى النائبات على ما قال برهانا واشتط العرب فتمسكوا بمبدأ الأخذ بالثأر، ولم يرض أكثرهم به بديلا من مال وغيره حتى خيلت لهم أوهامهم أن القتيل إذا لم يؤخذ بثأره وقف طائر على قبره يسمونه "الهامة" يظل يصيح بقوله: اسقونى اسقونى، ولا يسكت حتى يقتل القاتل، يشير إلى ذلك قول الزبرقان بن بدر:

يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتى * أضربك حتى تقول الهامة اسقونى (أدب الدنيا والدين ص ٣١٧) وكان من مظاهر شططهم فى ذلك القصاص من غير القاتل ما دامت تربطه به قرابة أو صلة معروفة، فالجريمة عندهم تتضامن فيها القبيلة كلها، وقد يزيدون فى شططهم فلا يرضون إلا بالقصاص بأكثر من القاتل، إظهارا لقوتهم وإرهابا لغيرهم، أو شدة تأثر بالفراغ الذى تركه ذو مكانة فيهم، يقول فى ذلك قائلهم:

ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقد روى أن واحدا قتل آخر من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول وقالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد إحدى ثلاث، قالوا: وما هى؟ قال: إما أن تحيوا ولدى، وإما أن تملؤا دارى من نجوم السماء وإما تدفعوا لى جلة قومكم -أى عظماءهم -حتى أقتلهم، ثم لا أرى أخذت عوضا.

وكان من أثر هذا الشطط اضطراب الأمن وانحلال الروابط وتفكك العُرا، وإشاعة الفوضى وجموح التعصب، والاستعداد الدائم للحرب والتمرن على فنون القتال، والتكاثر باقتناء الخيل الجياد والسيوف البواتر والتغنى فى الأشعار بما يملكون من قوة وما يتصفون به من شجاعة وبأس وعزة، منصرفين بذلك عن الأخذ بأسباب الاستقرار والرخاء والتقدم، فلم يكن لهم شأن يذكر عند الأمم الأخرى قبل مجئ الإسلام.

جاء الإسلام فوضع العلاج الحاسم لهذا الداء الخطير، حيث حرم القتل بدون سبب مشروع كما حرمته الأديان الأخرى فقال سبحانه {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} النساء: ٩٣، ووضع عقوبة للقتل حتى لو كان خطأ-مع أن الخطأ مبرر لرفع المساءلة-وجاء ذلك فى آية بدأها بعبارة توحى بأنه لا يتصور أن المؤمن يقتل أحدا، فقال {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} النساء: ٩٢.

وأقر مبدأ القصاص من القاتل عند تعمد القتل الذى يدل على الاستهانة بالقيم وعدم احترام حقوق الجماعة قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} البقرة: ١٧٨، وبيَّن حكمة ذلك بقوله {ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون} البقرة: ١٧٩.

غير أن الإسلام وهو الدين الوسط جمع إلى مبدأ العدل مبدأ الرحمة فجعل بديلا للقصاص وهو الدية كما قال تعالى بعد قوله {والأنثى بالأنثى} فى الآية السابقة {فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} البقرة: ١٧٨، ورغَّب فى العفو عنه فى آيات كثيرة ووعد العافين أجرا عظيما قال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} الشورى: ٤٠.

وهو حين يقرر مبدأ القصاص من القاتل وضع ضمانات تحول دون استفحال خطره وانتشار ضرره، فنهى عن الإسراف فيه بقوله {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا} الإسراء: ٣٣، ومن مظاهر هذا الإسراف قتل غير القاتل الذى ثبت إدانته، فحرم أن يؤخذ غيره بجريرته تطبيقا للمبدأ العام الذى جاء فى قوله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى} الأنعام:

١٦٤ كما حرم أن يقتل أكثر من القاتل، فذلك يؤدى إلى استمرار العداء وتجدد الحروب وتفاقم الضرر.

روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة مقتولا ممثلا به فى غزوة أُحد حلف ليمثلن بسبعين من الكفار لشدة وقع الألم على نفسه، فنزل قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} النحل: ١٢٦، فاختار الصبر وكفَّر عن يمينه.

ومن الإسراف فى القصاص - كما يراه كثير من أئمة الفقه - استيفاء ولى الدم حقه من القاتل دون الرجوع إلى أولى الأمر- السلطة الحاكمة - فلا يجوز أن يقوم به ولى القتيل ابتداء، بل لابد من تدخل السلطة، ذلك أن للجماعة حقا فى هذه الجريمة، والحاكم هو ممثل الجماعة الذى يستوفى لها حقها، وتقدير الجناية وتحقيق أركانها أمر يحتاج إلى دقة وضبط وفحص وتثبت لا يستطيع أن يقوم به ولى الدم وحده يقول القرطبى فى تفسيره "ج ٢ ص ٢٤٥" لا خلاف فى أن القصاص فى القتل لا يقومه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم فى إقامة القصاص وغيره من الحدود انتهى.

وقد سبق توضيح ذلك فى بعض الإجابات.

هذا هو موقف الإسلام من القصاص من القاتل، أو الأخذ بالثأر وهو لا يرضى أن يترك الناس تعاليمه ويعودوا إلى جاهليتهم الأولى.

الإسلام لا يرضى أن يخفى أولياء الدم أمر الجريمة عن المسئولين ليقتصوا بأنفسهم كما يشاءون، الإسلام لا يرضى أن يؤخذ البرى بذنب المسئ وأن تسيل الدماء بغير حق، الإسلام لا يرضى أن تعيش الأسر على أعصابها وتتعطل مصالحها وتكثر الفتن بينها، الإسلام لا يرضى ألا يتقبل العزاء فى القتيل حتى يثأر له، ولا أن تكون غاية المتعلم أن يتقن حمل السلاح ليثأر لشرف الأسرة، والإسلام لا يرضى عن هذا التقليد الجاهلى الممقوت الذى يعطِّل القوى ويصرف عن العمل الجاد، ويؤدى إلى الفساد والإفساد.

إن السب فى ذلك هو الجهل الذى لا يمحوه إلا العلم، والتعطل الذى لا يقضى عليه إلا العمل، والاستهانة بالقيم والقوانين التى لا يصلحها إلا التأديب الرادع، والتستر على المجرمين الذى لا يمنعه إلا إحكام الرقابة وتعاون الجهود.

فلنقف عند حدود الله حقنا للدماء وتمكينا للأمن، الذى هو من أكبر نعم الله على عباده، ففى ظله يحس الإنسان طعم الحياة، وينصرف إلى تكميل نفسه وتقوية مجتمعه، ويترك وراءه جيلا طيبا يتحمل الأمانة بصدق، ويكون ذكرى طيبة لا تنسى على مر العصور، قال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} المائدة: ٢، وقال {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الأنفال:٢٥

<<  <  ج: ص:  >  >>