للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الدين والسياسة]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

يردد كثير من المعاصرين هذه المقولة: لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين، فما مدى صحة هذه المقولة؟

الجواب

إذا أردنا أن نعقد صلة بين أمرين فلابد من تحديد المراد من كل منهما تحديدا دقيقا، حتى يكون الاختلاف فى الحكم واردا على موضوع واحد، وقد بينا فى ص ١١٤ من الجزء الأول من "بيان للناس " مفهوم الدين وما يراد به، وقلنا: إنه وضع إلهى شرع لإسعاد الناس فى معاشهم ومعادهم، أى فى دنياهم وأخراهم، وهو المراد بالهدى الذى نبه الله سبحانه آدم على أهميته حين أهبطه إلى الأرض ليكون خليفة فيها فقال {اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه: ١٢٣، ١٢٤.

وإسعاد الناس فى أخراهم يكون بما جاء فى قوله تعالى: {فمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} آل عمران: ١٨٥، وإسعادهم فى دنياهم يكون بتوفية مطالبهم المادية والروحية، بحيث لا يضلون ولا يشقون.

ودين الإسلام هو خاتمة الأديان جميعا، فيه كل ما يحقق السعادة فى كل القطاعات، بما جاء به من عقيدة صحيحة ومن شريعة كاملة وافية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة: ٣، نظم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبأسرته وبمجتمعه، ونظَم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الجماعات والدول، وذلك من كل النواحى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية وغيرها، "انظر ص ٤٥٢ من المجلد الثانى من هذه الفتاوى".

والسياسة فى أصلها فن الإدارة والرعاية، وأطلقت عرفا على سياسة الحاكم لرعيته، عن طريق الأجهزة المختلفة، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية وغيرها وما يستلزم ذلك من دستور وقوانين، ومجالس وإدارات وما إليها.

والدين الإسلامى فيه كل ذلك، وكتب الفقه العام عقدت أبوابا وفصولا لمعالجتها كلها. وهى مملوءة بالأدلة والنصوص والآراء الاجتهادية، بل وضعت كتب خاصة بنظام الحكم من أقدمها كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للماوردى المتوفى سنة ٤٥٠ هـ و"الأحكام السلطانية" للقاضى أبى يعلى الفراء الحنبلى، و "السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والراعية" لابن تيمية، والدولة الإسلامية قامت على أساس هذا الدين بنظامه الشامل لأمور الدنيا والآخرة على السواء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغا للوحى ومشرعا وإماما فى الصلاة وقاضيا بين الناس وقائدا للجيش، والخلفاء من بعده كانوا كذلك، وسار الحكام على هذه السياسة بأنفسهم أو بمن ينوبون عنهم، وبهذا التكامل فى التشريع والدقة فى التطبيق كانوا أعظم دولة خطبت ودها الدول الأخرى، وقبست من علومها وحضارتها ما طورت به حياتها حتى بلغت شأوا بعيدا فى القوة.

ذلك كله فى الوقت الذى لم يقم فيه دين غير الإسلام بما قام به من تطور ونهوض، لما توارثه أهل هذه الأديان من فصل بين الدين والسياسة، وإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ومن احتكار بعض رجالها لسلطة التشريع، ورقابة التنفيذ بما لا يخرج عن سائرة الكتاب المقدس، الذى يرغب فى الزهد والانزواء عن الدنيا، الأمر الذى جعل بعض المتحررين المتأثرين بثقافة المسلمين وحضارتهم يثورون على الأوضاع التى يعيشون فى ظلها مقيدة أفكارهم مغلولة أيديهم، فكانت النهضة التى فصلت الدين عن الدولة، وانطلقت أوروبا إلى العالم الواسع تصول فيه وتجول بحرية كاملة فى كل الميادين وسيطر عليها هذا الشعار "لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة" ونقله بعض الشرقيين إلى بلادهم، وحاولوا أن يطبقوه لينهضوا كما نهض هؤلاء، على جهل منهم، بأن هذا الشعار أملته ظروف من نادوا به، والجو الدينى الذى كانوا يعيشون فيه، وعدم إسعاف تشريعاتهم الدينية بتحقيق سعادتهم، وكذلك على جهل ممن قلدوهم بأن الدين الإسلامى ليس كالدين الذى ثاروا عليه، قاصرا عن الوفاء بمطالبهم بل هو دين كامل التشريع مثالى فى كل ما وضعه من قوانين لإسعاد الناس من دنياهم وأخراهم.

ومن هنا سمعنا هذه المقولة "لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة" يرددها كثير من الكُتَّاب والساسة والمنادين بالإصلاح. وهو شعار لا يصلح فى المجتمعات التى تدين بالإسلام وقد قرر كُتَّاب الغرب أن الإسلام دين وعولة،، فقال "شاخت " فى دائرة معارف العلوم الاجتماعية: ليس الإسلام مجرد دين، بل إنه نظام فكرى اجتماعى يشمل الدين والدنيا جميعا. تراث الإنسانية-ج ٥ص ١٧.

هذا، إذا أردنا بالسياسة فن الإدارة والحكم، الذى يحقق للمجتمع خيرى الدنيا والآخرة.

وكذلك تكون صادقة إذا أريد بها: عدم استغلال الدين للوصول إلى الحكم، فإذا تحقق ذلك طرح الدين لأنه أدى مهمته وانتهى.

فذلك نفاق لا يرضاه أى دين.

أما إذا أريد بهذا الشعار حرمان المتدينين من ممارسة حقوقهم السياسية، فذلك مرفوض، وكذلك إذا أريد به عدم تقيد نظام الحكم بمبادئ الدين فهو مرفوض أيضا، انظر توضيح ذلك عند الكلام على دور الشريعة الإسلامية فى تحقيق أهداف المجتمع. "ص ٣٨٠ ج ٢ - من كتاب بيان للناس " الكلام عن العلمانية، "ص ٤٥٢ من المجلد الثانى من هذه الفتاوى".

هذا، وقد ذكر المقريزى فى خططه أن السياسة كلمة مغولية أصلها"ياسة" وأصل نشأتها أن جنكيز خان التترى لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات فى كتاب سماه "ياسة" وجعله شريعة لقومه وتدوول من بعده، وكان لا يدين بدين ولما انتشر ملك أولاده وأسر عدد منهم فى الدفاع عن دولتهم وبيعوا فكان منهم دولة المماليك بمصر، ولشدة مهابة الأمراء للمغول وياستهم حافظوا على تنفيذ هذه "الياسة" فوكلوا إلى قاضى الشريعة العبادات والأحوال الشخصية، وأما هم وعاداتهم فكانت على مقتضى الياسة ونصبوا الحاجب ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، وجعلوا إليه النظر فى قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف فى أمور الإقطاعيات، فشرعوا فى الديوان ما لم يأذن به الله. . . إلى أن قال: هذا وكان الوازع الديني موجودا، فلما قلَّ الحياء وضعف الدين طغت السياسة وأحكامها وانزوى الدين وأهله، ج ٢ ص ٣٥٩.

هذا رأيه فى السياسة وهو يؤيد أنها نظام لا يلتزم بالدين، وضعه قوم لا يعترفون به

<<  <  ج: ص:  >  >>