للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اللغة العربية واللغات الأخرى]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ما رأى الدين فى الحملات التى قام بها بعض من يدعون التجديد والتيسير لتشجيع اللغة العامية، وعدم الالتزام بالقواعد النحوية، والإقبال على تعلم اللغات الأجنبية؟

الجواب

يقول مؤلفو كتاب " الوسيط فى الأدب العربى وتاريخه " طبعة سنة ١٩٢٨،:

إن اللغة العربية من أغنى اللغات كلمًا وأعرقها قدمًا، وأخلدها أثرا، وأعذبها منطقا، وأسلسها أسلوبا، وأغزرها مادة. ولها من عوامل النمو ودواعى البقاء والرقى ما قلَّما يتهيأ لغيرها، وذلك لما فيها من اختلاف طرق الوضع والدلالة، وغلبة اطراد التصريف والاشتقاق، وتنوع المجاز والكناية وتعدد المترادفات، إلى النحت والقلب والإبدال والتعريب، ولما تشرفت به من ورود القرآن الكريم والسنة النبوية بلسانها. ولقريش عظيم الأثر فيما نجم عن اجتماع العرب فى مشاعر الحج والأسواق بتهذيب لغتهم أنفسهم، لأخذهم من لغات القبائل الوافده عليهم ما خف على اللسان وحسن فى السمع، حتى تهيأت لنزول القرآن الكريم بها.

واللغة العربية حية وستظل حية لا تموت، لأنها لغة القراَن الكريم ولغة العبادة لله. يجد المؤمن أنها ضرورية لفهم كلام الله وكلام رسوله، ولأداء العبادة التى لا تغنى عنها ترجمة مهما كالت الدقة فيها، ولأنها مناط الشرف عند الإبداع فى الخطابة أو الشعر.

وقد شهد بعظمها كثير من المنصفين الأجانب مثل "إرنست رينان " فى كتابه "تاريخ اللغات السامية" حيث يقول: من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة القوية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى، عند أمة من الرُحَّل تلك اللغة التى فاقت أخوتها بكثره مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أن علمت ظهرت لنا فى حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أى تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها فى كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة.. . "مجلة الأزهر مجلد ٣ ص ٢٤٠ ".

وإلى جانب فضل اللغة العربية فى فهم القراَن والسنة وإتقان العبادة، لها فضل كبير فى توحيد الأمة الإسلامية، التى دخل فيها الفارسى والحبشى والرومى، ونسوا لغتهم الأصلية، وروى الحافظ ابن عساكر أن رجلا عاب على غير العرب مناصرة محمد العربى، يريد أن يصرفهم عنه لاختلاف أجناسهم ولغاتهم، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم وخطب فى المسجد "يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هى اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربى ".

هناك حملات مسعورة قديما وحكديثا لصرف الناس عن الإسلام بشبهات واهية من جهة العقيدة أو الشريعة أو شخص الرسول أو غير ذلك. ومن هذه الحملات تشجيع اللغات المحلية لكل جماعة بحجة سهولة التعامل بها، وصعوبة فهم القرآن وصعوبة تلاوته وقراءته، وللمحافظة على التاريخ والتراث لكل بلد أو جماعة. والهدف الحقيقى من وراء كل ذلك هو هجر اللغة العربية، وبالتالى الجهل بتعاليم الدين، ثم ضعف الشعور الجماعى ووحدة المسلمين، ثم تفرقهم وتباعدهم، ثم ضعفهم التام، وسهولة السيطرة عليهم.

ونسى هؤلاء المغرضون ومن ينخدعون بهم أن الحكماء يسعون الآن لجمع الناس على لغة واحدة لتيسير التفاهم وتبادل المنافع "الإسبرانتو" التى اقترحها الطبيب البولونى "لودفيج زامنهوف " والإسلام جاء بلغة واحدة لكل المسلمين، ولو كانت للمسلمين قوة فى تاريخهم الطويل لسادت اللغة العربية فى كل مكان يوجد فيه إسلام، لأنها أحسن اللغات، والبقاء دائما للاصلح {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض} الرعد: ١٧.

إن اللغة العربية بمقوماتها وبقبولها للتطعيم بألفاظ من اللغات الأخرى يمكن أن تساير كل عصر وتتمشى مع كل حضارة، فهى البحر الذى يكمن فى أحشائه الدر كما يقول شاعر النيل.

لقد تصدى لهذه الدعوة للعامية والمحليات بعض الغيورين على الدين وعلى العروبة. وبينوا ما فى كتب المحدثين من سموم حين يعالجون مستقبل الثقافة، ويضعون مناهج للتعليم والتأليف الذى لا يلتزم قواعد اللغة العربية، ووجدت برامج تدرس فى بعض الكليات والمعاهد بعناوين مثل: دراسات لغوية حديثة، والتطور اللغوى العربى فى العصر الحديث، واللهجات العربية الحديثة، والأدب الشعبى، والمذاهب الكبرى فى الآداب الأوروبية، ومدارس القصة، وتطور الفكر الإسلامى فى العصر الحديث. وناقش الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة الإسكندرية سنة ١٩٥٨، على صفحات مجلة الأزهر هذه الأفكار بموضوعية ودقة، وبيَن ما فيها من أثر على اللغة العربية والعروبة والدين، وذكر حملة صاحب "مستقبل الثقافة فى مصر" على الأزهر وعلماء الدين، لاهتمامهم البالغ باللغة العربية ودعوته إلى حرية تعلمها وتعليمها والتصرف فيها دون رقابة أو تحكم "مجلة الأزهر -المجلد ٣٠ ص ٣٢٦".

وذم الدكتور دعوة أحد المناهضين للعربية فى المؤتمر الأول لمجامع اللغة العربية بدمشق -إلى تأليف معاجم محلية لا يثبت فيها إلا ما بقى من اللهجات العربية حيًّا فى عامية كل إقليم، ودعا اَخر إلى إعادة النظر فى تبويب النحو وتدوينه من جديد.

وذكر الدكتور من تزعَّم الدعوه من رجال التعليم إلى تأليف كتب القراءة الجديدة " شرشر-جلاجلا. . . " وما جاء فيها من ألفاظ سوقية عامية "ص ٣٥٩ من المجلة المذكورة" وأن نتيجة ذلك عدم استقامة اللسان باللغة العربية أو صعوبة التزام القواعد النحوية وشيوع الكلمات السوقية، وتعدى ذلك إلى عدم الالتزام بالأوزان الشعرية ذات الوقع الموسيقى المؤثر على العواطف والأذواق.

إن مما يؤسف له أن بعض من يسمون أنفسهم عصريين متمدينين يحاولون أن يظهروا عصريتهم بتطعيم كلامهم بكلمات أجنبية، كدليل على معايشتهم للعصر وتفاعلهم مع الظروف وانفتاحهم على العالم كله " مرسى، برافو، شور، داكور، اكسيلانس، مستر. . . " أو يكتبون عناوين محلاتهم بلغة أجنبية مثل:

سوبر ماركت، رستوران.. . " وكل ذلك غزو للغة العربية من أبنائها الذين كان المفروض فيهم أن يتعصبوا للغتهم الشرقية الدينية.

إن من سياسة الاستعمار فرض نظامه وثقافته ولغته على المستعمرات، ونتيجة لذلك رأينا بعض البلاد الإسلامية التى كانت تروج فيها اللغة العربية أصبحت اللغة الأجنبية هى الرسمية أو الشائعة فى التخاطب والمراسلات والتأليف، وما زال لها أثر واضح حتى بعد زوال الاستعمار شكلا وحكما، وفى ذلك تذويب للشخصية العربية والإسلامية. ويجرنا ذلك إلى الحديث عن تعريب العلوم أو دراستها باللغة العربية كالطب والهندسة، وهناك نداءات تميل إلى ذلك، حفاظا على اللغة، وقامت بعض الدول العربية بالاستجابة لهذا النداء، وإن كانت فيه صعوبة فى الدراسة والترجمة.

ولا مانع فى هذا المجال من استعمال الأسلوب الأجنبى مع الأسلوب العربى، وليست هذه دعوة إلى هجر اللغات الأجنبية، فإن تعلمها لازم وبخاصة فى هذه الأيام التى تشابكت فيها المصالح وسهلت المواصلات. وقد ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود ليعرف ما فى كتبهم التى يرسلونها إليه، فتعلم اللغات مشروع، ولكن مع المحافظة على اللغة العربية لغة القراَن والدين ومن المؤكد أن حفظ القرآن الكريم - فى الصغر بالذات - أكبر مساعد على رسوخ اللغة العربية وتعودها واستقامة اللسان بها.

هذا، وتعلم اللغة العربية واجب على كل مسلم بالإجماع، كما قرره الإمام الشافعى فى رسالته، وهو الذى جرى عليه العمل، حتى كثر الأعاجم وقل العلم وغلب الجهل، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه الله فى العباده والذكر.

أما حكم تعلم اللغات الأجنبية فهو الجواز، وقد يصل إلى حد الوجوب عند الحاجة إليه، وهو داخل فى عموم الأمر بطلب العلم ومدح العلماء، والنصوص الكثيرة الواردة لم تحدد نوعا معينا من العلم، بل وسَّعت ميدانه ومما يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة فاطر: ٢٨ {إنما يخشى الله من عباده العلماء} بعد ذكر نزول الماء من السماء ونمو النباتات واختلاف طبقات الأرض ومكونات الجبال واختلاف المخلوقات الحية من الإنسان والحيوان، مما يدعو إلى الإيمان بالله وحسن استخدام كنوز الأرض شكرًا لله وتحقيقًا للخلافة، حتى العلم الذى يظن أنه شر لا بأس بتعلمه لاتقاء شره كما قيل:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وتعلم اللغات الأجنبية فيه خير لا شك فى ذلك، فمن تعلم لغة قوم أمن من مكرهم، حيث نتمكن من الاطلاع على ماكتبوا لنفيد من خيره ونتقى شره ونرد عليه واليهود كانوا يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارة يدل ظاهرها على أنها خير مثل "راعنا" فهى فى لغتهم تعنى الرعونة، كانوا ينادون بها الرسول، والمسلمون يقلدونهم فيها دون علم بما يقصدون منها، ظانين أنها-كما فى لغة العرب -تدل على الرعاية. قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} البقرة: ١٠٤.

وكان ابن عباس رضى الله عنهما يترجم بين يدى الرسول عند قدوم الوفود بلهجاتهم المختلفة "البخارى ج ١ ص ٣٢" ويقال: إن الذين حملوا كتب النبى صلى الله عليه وسلم بدعوة الملوك كانوا يعرفون لغاتهم.

وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود، لأن كتبًا تأتى منهم تحتاج إلى من يترجمها له، روى البخارى تعليقا والبغوى وأبو يعلى موصولا عن زيد بن ثابت الأنصارى قال: أتى بى إلى النبى صلى الله عليه وسلم مقدمه فقيل: هذا غلام من بنى النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة. فقرأت عليه فأعجبه ذلك فقال "تعلم كتاب يهود، فإلى ما اَمنهم على كتابى" فتعلمت، فما مض لى نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له. "الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى ج ٣ ص ٣٢٣".

فتعلم اللغات الاجنبية مشروع، ويجب أن يكون فى الوطن من يتقنونها كلها، حتى لا يعيش المجتمع فى عزلة عن العالم

<<  <  ج: ص:  >  >>