للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢٠- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون) (١) .

ذكروا هذه الآية، ووقفوا عند قوله تعالى: (الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله) (ذهب الله بنورهم (وعلقوا عليه قائلين: وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً، فيقول: " استوقد ـ ذهب الله بنوره "!.

الرد على الشبهة:

هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين فى تذبذب أحوالهم وتقلبهم فى مواقفهم، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية، على ما عند الله ـ عز وجل ـ مقضياً عليهم بالخسران المبين، وهى قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) (٢) .

ثم استأنف القرآن الحديث عنهم فى: (مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون (.

والمثل ـ بفتح الثاء ـ هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه، وهو ـ هنا ـ المنافقون، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذى هم عليه، وقصتهم الغريبة الراسخة فى طباعهم بمثل رجل، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها فى تحقيق الرؤية، وإبصار الطريق للسير فيه، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله فأظلمت عليه الدنيا، فوقع فى حيرة وارتباك.

وجمع الضمير فى " بنورهم " ليس عائداً على " الذى " المفرد المذكور فى (كالذى استوقد ناراً (، وقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد " الذى " فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد، بل هو بمعنى " الذين " وذكروا أن " الذى " فى الاستعمال اللغوى له معنيان:

الأول: أن يكون بمعنى المفرد، وهو الغالب والكثير فيه.

والثانى: أن يكون بمعنى الجمع، ويُفرَّق بينهما بالقرائن، ففى الآية التى معنا: " الذى " بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.

هذا رأى فى توجيه رد الضمير جمعاً على " الذى " وقد عبروا عن هذا بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد، لا فرداً معيناً (٣) .

ويرى الإمام الزمخشرى أن " الذى " هو ـ هنا ـ "الذين " حذفت منه " النون " لاستطالته، وهو مثل " وخضتم كالذى خاضوا " وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل، وأن المشبه هو حال المنافقين، بحال الذى استوقد ناراً. تشبيه معنى مركب بمعنى مركب، وليس تشبيه ذوات المنافقين بذات الذى استوقد ناراً، فهذا غير مقصود، وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل، بقصة المستوقد للنار، وأن وجه الشبه بين القصتين هو: " فبقوا خابطين فى ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح فى إحياء النار " (٤) .

ويقول الإمام الشوكانى:

و" الذى " موضوع موضع الذين، أى كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود فى كلام العرب، كقول الشاعر:

وإن الذى حانت بفلج دماؤهم

همُ القوم، كل القوم، يا أم خالد

ومنه " وخضتم كالذى خاضوا " و " والذى جاء بالصدق وصدَّق به، أولئك هم المتقون " (٥) .

والخلاصة:

بعد هذا العرض لأئمة النحاة والمفسرين يتضح جلياً أن الاستعمال القرآنى فى " مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " استعمال عربى فصيح فى غاية الفصاحة، وله شواهد فى كلام العرب المحتج بكلامهم، وإن كان القرآن غنياً عن الاستشهاد من خارجه على عروبته وسلامته من كل خطأ؛ لأنه من أصح مصادر اللغة العربية، ومع هذا فإن ما قاله الأئمة الأعلام يحيل شبهة هؤلاء المتطاولين على كتاب الله العزيز هباءً منثوراً، هذا هو دور النحو فى إبطال هذه الشبهة، وللبلاغة دور مهم فى الرد عليهم نلخصه فى الآتى:

إن المثل فى الآية مسوق أساساً لتمثيل شأن المنافقين، أما قوله تعالى: " كمثل الذى استوقد ناراً "، فأمر عارض اقتضاه مقام الحديث عن تمثيل حال المنافقين فهو أشبه ما يكون بالجملة الاعتراضية، لولا أنها مشبه به، ولما أدت الدور المراد منها تحول الحديث إلى الأصل المسوق من أجله الكلام، وبدأ هذا التحول من قوله تعالى: " ذهب الله بنورهم " فَجَمْعُ الضمير فى " بنورهم " منظور فيه إلى نظيره فى " مثلهم " فكان ضمير الجمع فى " بنورهم " مطابقاً أصالة لمقام الحديث أما " الذى استوقد ناراً " فصار مسكوتاً عنه بعد آداء دوره المراد منه.

وعلى هذا فإن التوجيه البلاغى لجمع الضمير فى " بنورهم " يغنى عن التوجيهات التى أبداها النحاة والمفسرون إذ لا معول فى التوجيه البلاغى على اعتبار " الذى " بمعنى الذين، أو هو " الذين " حذف منه النون.

ومحال أن يستقيم ما قاله مثيرو هذه الشبهة أن الصواب هو إفراد الضمير فى " نورهم " لأنه لو قيل: ذهب الله بنوره وتركه فى ظلمات لا يبصر، لتحول الكلام إلى غير المنافقين المضروب لهم المثل، ولزالت كل الروابط بين صدر الآية وعجزها. وهذا لا يقول به عاقل.


(١) البقرة: ١٧.
(٢) البقرة: ١٦.
(٣) انظر: أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (١/٣٠) وحاشية الشهاب على البيضاوى (١/٣٦٥) .
(٤) الكشاف (١/١٩٩) .
(٥) فتح القدير (١/٥٥) .

<<  <   >  >>