للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[٢٤- الإتيان بالموصول بدل المصدر]

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.. (١)

وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:

" من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".

الرد على الشبهة:

قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:

" أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".

يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".

وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل؟ ولا " من " اسم فاعل؟ ولا " آمن " اسم فاعل؟ ولا " الله " اسم فاعل؟

وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى؟

إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة، التى هم أميون فيها، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".

هذا، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية "، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:

الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:

الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم.

الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".

الثالث: أن يكون المصدر، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت

فإنما هى إقبال وإدبار

فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتقدير؛ هى مقبلة مدبرة.

وقد سبق الزمخشرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.

أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.

ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى، وهو ـ هنا ـ البر (٣)

يريد شيخ النحاة أن يقول:

إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى، أو نفى بعد إثبات، فمثلاً قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (٤)

ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى، وما بعدها هو التكذيب، فبين ما قبلها وما بعد تجانس ظاهر، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.

وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.

وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.

ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل، إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة.

أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:

والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، واستشهد على هذا بقول الشاعر:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى

ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى

حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.

والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.

نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.

والخلاصة:

من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.

فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة، والبلاغة أوسع خطى منهما، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب، ولو كان قد قيل: " ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن، والمؤمن بالإيمان، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.


(١) البقرة: ١٧٧.
(٢) الكشاف (١/٣٣٠) .
(٣) الكتاب (١/١٠٨) .
(٤) الأعراف: ٩٦.

<<  <   >  >>