للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[٢٥- وضع الفعل المضارع موضع الماضى]

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (١) .

ذكروا هذه الآية، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:

" كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان "؟!

الرد على الشبهة:

وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (٢) .

وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (٣) .

وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية؟

يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.

وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.

ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع، وهو حيوان مفترس.

فأضربها بلا دهش فخرَّت

صريعًا لليدين، وللجران (٤)

الشاعر ضرب الضبع فى الماضى، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.

هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويًا، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.

وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":

" يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه " (٥) .

ونعيد السؤال مرة أخرى:

لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه؟

الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن، وكأن الأبصار تراه الآن.

هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر، ولا ماضيًا.

والخلاصة:

بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى، والنحو وإن كان أساس البلاغة، وجذورها العميقة، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.

وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.

إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا

أما لوقيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه، وذلك للاعتبارات الآتية:

فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.

وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن، ولو كان قد مات لحظة خلقه.

أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته، كما قال عز وجل:

(وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً) (٦) .

لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال، وتستمر فى الاستقبال.

وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:

مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "

ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.

وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء، وهو الأكثر، وإما الواو مع النون، وهو كثير، أو مع الميم.

وكذلك ما بعدها، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز، وجه من وجوه إعجازه، التى باين بها كلام البشر والجن، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع، كما جذبت معانيه القلوب، وأسرت العقول، واستولت على ألباب أولى الألباب.


(١) آل عمران: ٥٩.
(٢) الكشاف (١/٤٣٣) .
(٣) أنوار التنزيل (١/١٦٢) .
(٤) يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
(٥) انظر: الدر المصون (٣/٢٢٠-٢٢١) .
(٦) النساء: ١.

<<  <   >  >>