للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أيام معلومة وأماكن مستقرة، وإذا كانت هذه الأسواق مجالًا لنشاط مكة التجاري؛ فقد كانت من جهة أخرى تقليدًا خطير الشأن جليل النفع، بالنسبة للعرب الذين كان لهم في موسم الحج وأشهره الحرم فرصة الغدو والرواح آمنين مطمئنين، فكانوا يفدون على موسم الحج وأسواقه من كل الجهات: من أطرف الشام والعراق ومن اليمن وتهامة والبحرين، على مختلف القبائل والبيئات والجهات والعقائد، فيلتقون في هذه الأسواق ويتبادلون السلع، ويقيمون أودهم، ويتزودون بما هم في حاجة إليه من العروض كما كانوا يجدون فيها فرصة لإقامة مجال المفاخرة وإنشاد الأشعار والمفاضلة بين الشعراء، ولعقد حلقات السمر, ومجالس القضاء لحل المشاكل والقضايا المعقدة، كما كانت فرصة لبث الأفكار وتسيير الأخبار، وتعارف الزعماء والشعراء والخطباء، كما كانت مجالًا لمزاولة أنواع الرياضة من فروسية وسباق ومصارعة ومناضلة. فهي تشبه "الجمنازيوم" عند الإغريق إلى حد كبير١.

وقد استغل النبي -صلى الله عليه وسلم- فرصة هذه الأسواق للقاء وفود العرب وزعمائهم ونبهائهم؛ ليعرض عليهم رسالته ويقرأ عليهم القرآن، وقد تقابل مع وفد يثرب وتم بينهم الاتفاق؛ فكانت الهجرة بعد ذلك وما تلاها من أحداث غيرت وجه التاريخ العربي بل وجه التاريخ العام٢. ونرجح أن الوافدين على هذه الأسواق لم يكونوا كلهم مشركي العرب، بل كان يفد عليها نصارى العرب ويهود يثرب؛ للتبشير والاتجار، ولعل منهم من كان يشترك في مناسك الحج وقد كان قس بن ساعدة الإيادي من نصارى العرب وخطبته في أحد مواسم الحج من الروايات العربية المشهورة٣.

كذلك كان للحج آثار اجتماعية وأدبية عظيمة؛ فالعرب يأتون من كل جهة، ثم يتفرقون وقد امتلأت جعباتهم بالأخبار وذاكراتهم بالأشعار والخطب والكلمات الممتازة, واكتظت أذهانهم بمختلف الصور والمشاهد، الأمر الذي ساعد على تقريب العرب بعضهم من بعض واستقرار معنى القومية المشتركة في أذهانهم، وتوحيد اللغة وتصفيتها، وبعث حركة نشيطة بدت تباشيرها وتطورها التقدمي قبل الإسلام, فيما كان


١ البتنوني: الرحلة الحجازية ص١١٩- ١٢٠.
٢ ابن سعد ١/ ٢٠١- ٢٠٢.
٣ ابن كثير ٢/ ٢٣٢- ٢٣٤.

<<  <   >  >>