للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنما هي مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها، وإرغام المسلمين على الاعتراف بقوتها وقدرتها على تمرير هذه التجارة في أراضيهم على رغم أنوفهم.

لقد أصبح الموقف بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- غاية في الحرج والدقة؛ فلقد خرج ليواجه تجارة وحامية قليلة فلم يأخذ للحرب أهبتها، ولم يتزود بما يكفي من عتاد وسلاح، وكذلك تخلف عنه كثير من أصحابه فلم يخرجوا ظنًّا منهم أنه لا يلقى حربًا. وكذلك لم يكن متثبتًا من موقف الأنصار بإزاء هذا الوضع الجديد. أيقاتلون أم يتمسكون بموقفهم السابق من عدم المجازفة بالاشتباك مع قريش؟

وهب أن المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله واستاقوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم يحفزها حرصها على مالها وتؤازرها كثرة عديدها وعددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة أو تموت دونها، ولكن إذا عاد محمد إلى المدينة من حيث أتى طمعت قريش وطمع يهود المدينة فيه، واضطر إلى اتخاذ موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى احتمال أذى اليهود والمشتركين معهم بالمدينة مثلما احتملوا من أذى قريش في مكة. ثم ماذا عن الدولة الجديدة وسيادتها وحدودها؟ إنها سوف تهدد تهديدًا خطيرًا قد يذهب بحرمتها ويجعلها غرضًا للمعتدين؛ بل قد يقضي عليها نهائيًّا.. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الله.

عند ذلك استشار أصحابه وأوضح لهم الموقف؛ فأدلى كبار المهاجرين برأيهم، وأظهروا طاعتهم واستعدادهم للتضحية مهما عظمت. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد رأي الأنصار؛ ولذلك ظل يكرر: "أشيروا علي أيها الناس" فأدرك سعد بن معاذ زعيم الأوس وحامل لواء الأنصار في هذه الغزوة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يريدهم، فقام يجيب عن الأنصار قال: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله" ١. فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشطه ذلك، فقال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم" ٢.


١ ابن هشام ٢/ ٢٥٤.
٢ نفسه ٢/ ٢٥٤.

<<  <   >  >>