للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التوتر بين الفريقين، واتصل المهاجرون بأهليهم والتقوا معهم؛ فإن الدماء عند ذلك تحن والأرحام تتقارب، ويحس السواد من أهل مكة بالحنين نحو أهليهم وذوي أرحامهم، ويحسون بمقدار الظلم الذي وقع عليهم بطردهم من وطنهم والتفرقة بينهم وبين أهليهم، وإذن لا بد أن يكسب محمد الجولة عليهم، ثم إن هناك عددًا من المسلمين حبسهم أهلهم بمكة وحالوا بينهم وبين الهجرة، وهم يعذبونهم بقصد فتنتهم، فماذا لو دخل المسلمون مكة فاتصلوا بهؤلاء المستضعفين وعملوا على تحريرهم من الظلم والإعنات الذي هم فيه. ووجد هؤلاء المعذبون ملجأ وملاذًا عند إخوانهم، إذن فستكون الحرب الأهلية في مكة، أو هي الفرقة والضعف، ورجال محمد في مكة يستطيعون أن ينتهزوا الفرصة للاستيلاء عليها.

وإذن فمهما يكن غرض محمد ومظهره؛ فلا بد من الحيلولة بينه وبين دخوله مكة، مهما يكن الأمر ومهما يكن الثمن، حتى ولو كانت الحرب في الأشهر الحرام أعنف الحرب، على ذلك صمم زعماء قريش ومن أجل ذلك أعدوا جيشًا قويًّا بلغ عدد فرسانه مائتين، وقدموه للقاء محمد ومنعه من دخول مكة.

وتقدمت فرسان قريش على رأسها خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى كراع الغميم على نحو عشرة أميال من مكة١. وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسيرة جيش قريش لمنعه، فأخذه الأسى لموقف قريش ولددها في الخصومة مع أن ما بينها وبينه من لحمة الدم والقرابة كان خليقًا أن يجعلها تقاربه وتنتصر له. بدل أن تخاصمه هذه الخصومة العنيفة التي أعمتها عن موقف الحكمة، وأبعدتها عن الحلم الذي اشتهرت به بين العرب، فقال: "يا ويح قريش!! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة" ٢.

وبينما كان محمد يفكر في أمر قريش ويستعرض موقفها، كان فرسانها منه على مرأى النظر، يدل منظرهم على أنه لا سبيل للمسلمين إلى دخول مكة إلا أن يقتحموا هذه الصفوف اقتحامًا، ولكن محمدًا ما جاء محاربًا؛ وإنما جاء لتقرير مبدأ السلم ولذلك مال بأصحابه وسلك طريقًا آخر تجنب به قوات قريش وأوصلهُ إلى الحديبية،


١ ابن هشام ٣/ ٣٥٦. إمتاع ١/ ٣٧٨. ابن سعد ٣/ ١٣٩.
٢ ابن هشام ٣/ ٣٥٦، ٣٥٧.

<<  <   >  >>