للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبرسالته، ويتعنتون ويأتون باللبس، ليلبسوا الحق بالباطل وكان القرآن يجيبهم فيما يسألون عنه١. وانضم إليهم جماعة المنافقين من الأوس والخزرج ليسألوا ويشاركوا في الوقيعة بين المسلمين٢ وكانوا يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم؛ فلما رأوا جماعة منهم بالمسجد ذات يوم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم فأخرجوهم من المسجد إخراجًا عنيفًا٣؛ لكن هذا لم يثن اليهود عن سعيهم ووقيعتهم بين المسلمين، وغاظهم أن يجتمع أمر الأوس والخزرج على الإسلام وتقوم الألفة بينهم عليه، فأرادوا أن يثيروا الأحقاد القديمة ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء. مر أحدهم -شاس بن قيس- على نفر من الأوس والخزرج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم، وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، وأمر فتى شابًّا من اليهود -كان معه- أن يجلس بينهم وأن ينتهز فرصة يذكر فيها يوم بعاث وما كان من الأوس والخزرج فيه. وتكلم الفتى فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وكاد الشر يقع بينهم لولا أن سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا متحابين، ومازال بهم حتى بكى القوم وعلموا أنها من نزغات الشيطان وكيد عدوهم٤.

وبلغ الجدل بين محمد واليهود مبلغًا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه، فقد نزل إحدى وثمانون آية من سورة البقرة، كما نزل قسم كبير من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء اليهود، وإنكارهم ما في كتابهم، ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة] ٥.


١ ابن هشام ٢/ ٢٤، ٣٥.
٢ نفسه ٢٧- ٢٩.
٣ نفسه ٢٩.
٤ ابن هشام ٢/ ٣٩، ٤٠.
٥ انظر تفسير الطبري ٢/ ٣٣٣، ابن هشام ٢/ ١٩٠، ابن كثير ١/ ٢٣٠.

<<  <   >  >>