للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لست أدري كم بقيت منتظراً, ومتى سارت السيارة, لكن الذي لا أزال أذكره أن المستقبل.. كان يبدو أمامي مظلماً قاتماً, فكم سمعت أن المسلول يعيش شهرين أو ثلاثة ثم يموت.. وقفزت إلى ذهني جنازة ابن جارنا صلاح الذي مات مسلولاً وهم يخرجونها من الدار وأخوه محمد متهالك القوى وأبوه منكس الرأس وأمه تصيح من النافذة يا ولدي صلاح وتكاد تلقي بنفسها، ثم غابت لتظهر بدلا منها صورة جنازتي وهم يخرجونها من الدار ووالدي المسكين يتكئ على عصاه ودموعه تنهمر على لحيته وأمي تصيح من وراء الباب وأخوتي قد انتفشت شعورهم، وأصدقائي ينكسون رؤوسهم يتظاهرون بالحزن والأسى.. ورسخ في نفسي أن النهاية قريبة لابد منها وتنوعت الأفكار التي اعترضتني، فإني فيما تبقى لي من الآيام سأعتزل الناس والأصدقاء وسأجعل لي صحنا خاصا وملعقة خاصة وسأمنع أمي وإخوتي من القرب مني، وسأترك الدنيا وما فيها، ولكن ماذا أصنع بهذه الآيام المتبقية ستبدو مملة متعبة لا أرى فيها جمالاً، ولا متعة ولا روعة! ولم أجد جواباً، كنت أدور بذهني وأدور ثم أعود إلى نفس الأفكار حتى وصلت السيارة الزبداني فترجلت منها، وسرت نحو البيت..

لم يعد مصيف الزبداني الآن يعني لي شيئاً وقد كان بالأمس الروضة الغناء، والجمال الطبيعي الرائع، والمتعة المتفجرة والسعادة المتجددة. كان انعدام المسؤولية والبحث عن اللهو, كان الرحلة والغناء والضحكة، كان المرأة الجملية والنكتة الحلوة، والسير اللطيف كان الهواء العليل، والماء البارد وثمار الطبيعة اللذيذة، كان الجبل في شموخه والجدول في خريره والمغارة في سرها والدرب بترابه، والغصن في ترنحه وميلانه، والآن كلمة الزبداني كلمة فارغة لا معنى لها.

وصلت البيت وقرعت الباب وفتحت لي أمي ونظرت في وجهي، وانحنيت على يدها أقبلها.. وأحست بجمودي.. قالت: ما بك؟ .. وأجبت بانكسار وضعف: لا شيء ابتعدي عني..

- ما بك هل جرى شيء..؟