للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما أن تم استعداد عبد الرحمن حتى كانت جحافله تتدفق من على سفوح البيرنية, وتنداح في جنوب فرنسة, كأنها السيول الجارفة, أو الأعاصير العاتية, لا تواجهها قوة إلاّ مزققتها, ولا ينهض لقتالها ناهض إلاّ سحقته, وها أن (أود) كبير حكام جنوب فرنسة يجمع كل قواه وينقض بها على المسلمين في وادي (دور دفاون) محاولا صد زحفهم, غير أن قواه التي جمعها لا تلبث أن تلاقي مصيرها المحتوم, وهو الفرار عن قتلاها الذين بلغ عددهم مبلغا جعل أحد المؤرخين يقول: "إن الله وحده يقدر على أن يحصيهم".

ويتجه (أود) وغيره من الملوك والأمراء الذين فل حدهم الغافقي نحو شارل مارتل أكبر ملوك الإفرنج في عصره ويسألونه -على رغم ما بينهم جميعا من منافسات وخلافات- العمل المشترك على وقف هذا الإعصار الذي هب على بلادهم, فاحتاجها أيما اجتياح.. ويستجيب شارل مارتل, وما كان له إلا يستجيب لنداء هؤلاء, ويستصرخ المقاتلة من كل صوب وحدب باسم حماية الدين, وصيانة الأرض, والحفاظ على الحياة المهددة.. وتجتمع له جيوش كثيفة لا عهد له بمثلها.. وفي الوقت نفسه يردد على مسامع قومه كلمات تدل على الحنكة وبعد النظر, كان كثيرا ما يقول لهم: "الرأي عندي ألا تعترضوا العرب في خرجتهم هذه, فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه, وهم في إقبال أمرهم, ولهم نيات تغني عن كثرة العدد, وقلوب تغني عن حصانة الدروع, ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن, ويتنافسوا في الرئاسة, ويستعين بعضهم على بعض, فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر".