للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن الرغبة في الهوى حقيقة الدنيا وإن كان العبد زاهداً في المال من قبل أنه يعطي الزهد في شيء دون شيء، كما يزهد في الثناء ولا يزهد في المال، ولا يعطي الزهد في الأطعمة وقد يعطى الزهد في المال، ولايعطى الزهد في منصبه لغلبة الهوى، فإذا أعطي الزهد في الهوى كائناً ما فقد أعطي حقيقة الزهد في الدنيا، وهذا هو الزهد في النفس، لأن النفس عين الرغبة والهوى روح النفس، فاعرف هذا، وكان يونس بن ميسرة الجيلاني يقول: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يديك، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون ذامّك ومادحك في الحقّ سواء، وقال سلام ابن أبي مطيع رحمهما الله: الزهد على ثلاثة أوجه، واحد أن تخلص العمل لله عزّ وجلّ والقول فلا يراد بشيء منه الدنيا، والثاني ترك ما لا يصلح والعمل بما يصلح، والثالث الحلال أن يزهد فيه وهو تطوّع.

وكان إمامنا في هذا العلم إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض في الحرام، والزهد الفضل والسلامة الزهد في الشبهات، وأما أيوب السختياني رحمه الله فكان يقول: الزهد أن يقعد أحدكم في منزله فإن كان قعوده لله تعالى رضا وإلا خرج، وإن يخرج فإن كان خروجه لله تعالى رضا وإلا رجع، فإن كان رجوعه لله تعالى رضا وإلا ساح ويخرج درهمه، فإن كان إخراجه لله رضا وإلا حبسه ويحبسه، فإن كان حبسه لله تعالى رضا وإلا رمى به ويتكلم، فإن كان كلامه لله تعالى رضا وإلا سكت، فإن كان سكوته لله تعالى رضا وإلا تكلم فقيل: هذا صعب فقال: هذا الطريق إلى الله عزّ وجلّ وإلا فلا تلعبوا فقد ذهب إلى أن الزهد هو المراقبة، والمراقبة هي الإخلاص، وسئل حاتم الأصم صاحب شقيق البلخي رحمهما الله تعالى عن الزهد فقال: أوّله الثقة وأوسطه الصبر وآخره الإخلاص، فإذا كان الإخلاص عندهم هو آخر الزهد فكيف يصحّ لعبد آخر الزهد قبل أوّله أم كيف يجاوز الإخلاص إلى مقامات المعرفة فقد صار آخر الزهد عندهم أوّل المعرفة وذهبت طائفة إلى أن الزهد في الدنيا فريضة على المؤمنين لأن حقيقة الإخلاص هو الزهد عندهم فأوجبوه من حيث أوجبوا على المؤمنين الإخلاص ومال إلى هذا القول عبد الرحيم بن يحيى الأسود.

وقد روينا معناه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قيل لأحمد: بأيّ شيء ذكر القوم وصاروا أئمة فقال: بالصدق، قالوا: وما الصدق؟ قال: الإخلاص، قيل: وما الإخلاص؟ قال: هو الزهد قيل: وما الزهد يا أبا عبد الله فأطرق ثم قال: سلوا الزهاد

<<  <  ج: ص:  >  >>