للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم من توكّل عليه لقيامه بشهادته عن حسن معرفته، ومنهم من توكّل عليه تسليماً له عن جميل معاملته، ومنهم من فوّض إليه لحسن تدبيره عنده وبحكم تقديره، ومنهم من توكّل عليه لأن توحيده له وشهادة قيوميته، ذلك يقتضيه، فهذه كانت مواجيد أوليائه ومناهج أحبابه عن مشاهدة القرب ومعرفة القريب، وبعضهم أعلى مقاماً من بعض، وبعض هذه المشاهدات أقرب وأرفع فأعلاها من توكّل عليه للإجلال والتعظيم، وأوسطها من توكّل عليه للمحبة والخوف، وأدناها من توكّل عليه تسليماً له وتحبباً إليه، وقد ذكرنا أيضاً من توكّل العموم ما يستحي العارفون من ذكره، وينزّهون قلوبهم عن فكره، وهو التوكّل عليه في القلوب، وقد طوينا ذكر توكل خصوص الخصوص من صديقي المقربين لأنه لا يحتمله عقل عاقل ولا يسع أن يستودع في كتاب الناقل إذ ربما نظر فيه منكر جاهل، والله المستعان فدخل من عرفه فيما يحبّ لأجله، ورغبوا فيما مدح لوصفه ليحصل لهم وصف يعطيهم به الولي حسن ثناء، ينالون بذلك قربة منه ومحبة لديه.

ذكر بيان آخر في التوكّل

وما لا ينقص المتوكل ولا ينقص المتوكل على الله سبحانه مسألة مولاه فيما أحب من صالح الدنيا ومزيد الآخرة، إذ لم يقصد غير مطلوب، وكان مفوضاً إلى الله الأمور، ولكن يحتاج إلى معرفة الإجابة؛ فقد يكون المنع إجابة وقرباً إذا كان العطاء شغلاً عنه، وبعد الآن الخيرة فيما لا يعلم العبد، وقد يكون فيما يكره مما يعلم الله سبحانه حسن عاقبته، لا فيما يعقل العبد عاجل منفعته، فعليه التسليم لحكم الحاكم والرضا بقسم القاسم، فإن سأل تكاثراً من الدنيا، أو مالاً يحتاج إليه، وما ليس فيه صلاح قلبه، ولا قربة إلى ربّه، أخرجه من حقيقة التوكل بمقدار ما يخرجه من الزهد؛ وإن انقطع بالذكر عن المسألة أعطاه فوق عطاء من سأله، وإن سكت حياء من الوكيل إذ هو حسبه فشهد الكفاية ورضي بجميع التصرف، فهذا مقام من المواجهة عن مشاهدة القيومية وهو حال المقربين، ولا يقدح في التوكل تشرّف المتوكل إلى رزقه لأنه خلق ضعيفاً ذا فاقة، ورزقه معلوم لا بدّ منه، والمعلوم مقسوم فتشرّفه إلى القسم تشرّف منه إلى القاسم، ومن تشرّف إلى مولاه شرّفه وتولاه، ولكن إن تشرّف إلى الزيادة، وخرج من القناعة، وطلب العادة، وأراد الشيء قبل وقته، أو كره تأخره عنه إلى وقت مقدوره، فإنّ هذا يقدح في توكله وينقص من زهده، ولو كان الشرف إلى الرزق منها والتطلع إلى الرزق مجملاً ينقص التوكل لعللنا من باع واشترى وجهلنا من تعالج من علله بالدواء، لأن في ذلك تشرّفاً إلى الرزق وتطلعاً إلى البرء، فجاء من ذلك تضعيف التابعين وطعن على المتداوين من الصحابة والسلف الصالح، وأخرجهم ذلك من التوكل والزهد، فلهم منها مقامات،

<<  <  ج: ص:  >  >>