للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرجت إلى هذا كله، وإذا تناقصت وبدل بها الصالحات والحسنات أدخلت في مقامات المحبة والقربات، كما جاء في الأثر الثابت عن حبيب الله، وكذلك في تدبر الخطاب أنّ العاكف على هواه مقيت الله، فوجد هذه الأوصاف منك دلائل ما عاد عنك من الاستبدال بك والإسقاط لك، والخوف من هذه المعاني علامة المعرفة بأخلاقه الملوئة، ولا يصلح شرح هذه المقامات في كتاب ولا تفصيلها برسم خطاب، إنما يشرح في قلبه بيقينه قد شرح وبفضل العبد من نفسه قد فصل، فأما قلبه مشترك وعبد في هواه مرتبك، فليس لذلك أهلاً والله المستعان، وثم خوف ثامن عن شهادة حب عال يغرب اسمه فيلتبس، ويخفي وصفه لقلة اشتهاره في الاستماع فيجهل، لم نسمه لأنه خوف عن مقام له اسم من المحبة، فيشتبه على كثير من سامعيه فينكرونه ويتشنج في أوهام غير مشاهديه بالخلق فيمثلونه، لأن أسماء صفات الخلق ملتبسة بمعنى صفات الخالق، وإنما لهم من ذلك مايعلمون وهم بعلومهم محجوبون، فكيف بها يشهدون، فإن ذكرنا خوفه ثم على ذكر مقامه فظهر بإظهاره، فكان طيه أفضل من نشره إلى أن يسأل عنه من ابتلي بمصدره عنه، بعد أن نشرت منه لأن مقامات المحبة كلها إلى جنب مقامه، كنهر ضيف إلى بحر مثله، كمثل مشاهدات اليقين كلها إلى جنب شهادة التوحيد بالتوحيد، وهو وصف من المحبة يعرف لأنّه من شوق الحبيب إلى المحب، وهو من معنى قول رابعة آنفاً: حبّ الهوى، ومن معنى قول عائشة رضي الله عنها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرى ربّك يسارع إلى هواك، ومن صدر عن مقام محبّ بعد وروده رفع إلى هذا المقام لأنه في مقام محبوب لجميل مشاهدات اليقين، وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد هذين

البيتين كثيراً: تين كثيراً:

ومن بعد هذا ما تدق صفاته ... وما كتمه أحظى لديه وأعدل

ألا أنَّ للرحمن سرًّا يسرّه ... إلى أهله في السرّ والستر أجمل

وقد ذكرنا معناه بعض المحبوبين في كلام منظوم في بيتين وهما:

فمنك بدا حبّ بعز تمازجا ... بماء وصال كنت أنت وصلته

ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه ... فكان بلا كون لأنك كنته

وقال بعض العلماء: مَنْ عرف الله من طريق المحبة بغير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عرفه من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومَنْ عرف الله من طريق المحبة والخوف أحبّه الله فقرّبه وعلّمه ومكنّه، وليس العجب من خوف الخائفين إذ لا يعرفون إلا الصفات المخوفات والأفعال القاصمات، وإنما العجب من خوف المحبين مع ما عرفوا من أخلاقه وحنانه وشهدوا من تعطفه وألطافه مالم يعرف الخائفون، ثم هم مع حبهم يهابونه وعلى أنفسهم به يحابونه، وفي فزعهم منه يشتاقون إليه، وفي بسطه لهم ينقبضون بين يديه، وفي إعزازه لهم يذلون له، لأن من قبض فانقبض

<<  <  ج: ص:  >  >>