للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعدائه والعادة، ولعلم يقيناً أنّ ما هو فيه من الذكر والصلاة أنفع له وأحمد عاقبة مما تفكر فيه من عاجل دنياه، فيشتغل حينئذ بما هو فيه له من الذكر عمّا هو عليه من سوء الفكر، وليس بعد هذين المقامين حال ينعت ولا يمدح بشيء، وما قدح في قلبه من فهم الخطاب وتدبر معاني الكلام والإيقان على المقصد والمراد فهو تعليم من الله تعالى وتوقيف وتنبيه منه وتعريف؛ وهذا مزيد التلاوة وعلامة الإخلاص في المعاملة وبركة التدبر، دليل القبول والشكر لحسن الخدمة، فليأخذ من ذلك ما عفا ويغترف منه ما صفا، ولا ينتظره ولا يتمناه ولا يتبعه بعد انصرافه بالفكر في معناه، فيسترق العدوّ عليه السمع ويلقي إليه الوسوسة ويطمع فيه بالغرة ويدخل عليه من باب الأمنية، لأنه قد قرن الأماني بالإضلال؛ فهي مواعيد الكذب للإبطال، ألم تسمع إلى ربك تعالى كيف أخبرك عنه في قوله تعالى: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمنِّيَنَّهُمْ) النساء: ١١٩، ثم قال في مثله: (وَعِدْهُمْ وَشَارِكْهُمْ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) الإسراء: ٦٤، ثم استثنى عباده المسلطين عليه بسلطانه، الغالبين له بآياته، فلم يصل العدو إليهم لمواصلته لهم وتوكّلهم عليه بوكالته إياهم، تنتظم هذه المعاني في قوله تعالى: (إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلاً) الإسراء: ٦٥، وقوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَن اتَّبَعَكُما الغَالِبُونَ) القصص: ٣٥، مع قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلى الَّذينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) النحل: ٩٩.

وللعبد في التفكّر والتدّبر لما يستقبل من كل كلمة شغل عمّا فات مما كان عمله، وله في الشغل في الحال اقتطاع بما قد فهمه وما فهمه من غير ما يتلوه فاستدل به على ما سواه مما يعينه ويحتاج إليه؛ فهي أبواب من الفطنة تفتح له فيكون التكلم مفتاحها، ثم يخرج العبد إلى سواها مما هو له أصلح أو عليه أوجب، فليعرف بذلك ما عرف وليقف من ذلك على ما عليه وقف وما تفكر فيه من غير تدبر التلاوة، أو شغل به من غير فهم المتلوّ فهو حجاب له من الفهم وقطع له عن خالص العلم فليقطع ذلك، والتمام في التلاوة أن يتدبر التالي باطن الكلام، ويتفكرّ في غوامض الخطاب، ويوقف قلبه على معاني المراد، ويعمل فكره في تذكر الموصل والترداد، فإن الكلام عزيز من عزيز، ولطيف من لطيف، وحكيم من حكيم، وعلى من على ظاهره سهل قريب، وباطنه بحر عميق، يقول السامع إذا عقله قد فهمته، لتجلي فحواه، فإذا شهده كأنه ما سمعه لدقيق معناه يحسب العاقل أنه قد عرفه لظهور بيانه وتفصيل حكمته، فإذا عرف المتكلم به كأنه ما عقله لعمق بحاره وسعة أقطاره قد اغترّ به قوم لما سمعوا بيانه فادّعوا أنهم يحسنونه، وخدع به آخرون لما عقلوا أمثاله فطلبوا غيره وسألوا أبداله، وأصغى آخرون إلى سمعه فادّعوا فهمه فأكذبهم الصادق، وعزلهم عن سمعه، ثم أخبرنا بجميع ذلك عن جهلهم، وعجبنا من جراءتهم، فقال في وصف الأولين: (

<<  <  ج: ص:  >  >>