للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رأيت إسراع القلب الى هذين البيتين، وتبيّنت قربهما منه؛ والمعنى واحد، وكلاهما خالٍ من الصنعة، بعيدٌ عن البديع؛ إلا ما حسُن به من الاستعارة اللطيفة، التي كسته هذه البهجة. هذا وقد تخلل كلّ واحد منهما من حشو الكلام ما لو حُذف لاستغني عنه وما لا فائدة في ذكره؛ لأن امرأ القيس قال: من وَحْش وَجرة، وعديّاً قال: من جآذر جاسم، ولم يذكُرا هذين الموضعين إلا استعانة بهما في إتمام النظم، وإقامة الوزن، ولا تلتفتنّ الى ما يقوله المعنويون في وجْرة وجاسم، فإنما يطْلُب به بعضهم الإغرابَ على بعض؛ وقد رأيتُ ظِباءَ جاسم فلم أرها إلا كغيرها من الظباء. وسألت من لا أُحصي من الأعراب عن وحش وجْرة فلم يرَوا لها فضلاً على وحش ضريّة وغزلان بُسَيطة، وقد يختلف خلْق الظِباء وألوانها باختلاف المنشأ والمرتع؛ وأما العيون فقلّ أن تختلف لذلك؛ وأما ما تمم به عدي الوصف، وأضافه الى المعنى المبتذَل بقوله على إثر هذا البيت:

وسْنان أيقَظهُ النُعاسُ فرنّقتْ ... في عينِه سنَةٌ وليسَ بنائِمِ

فقد زاد به على كلّ منْ تقدم، وسبق بفضله جميعَ من تأخر، ولو قلت: اقتطعَ هذا المعنى فصار له، وحظَر على الشعراء ادّعاء الشرك فيه لم أرني بعُدت عن الحق، ولا جانبْتُ الصدق. وقد تغزل أبو تمام فقال:

دعْني وشُربَ الهوى يا شارب الكاسِ ... فإنني للذي حسيته حاسي

لا يوحِشنّك ما استعجمتَ من سَقمي ... فإنّ منزلَه من أحسن الناس

من قطْع ألفاظِه توصيلُ مَهلكَتي ... ووصْل ألْحاظه تقطيعُ أنفاسي

متى أعيش بتأميلِ الرّجاء إذا ... ما كان قطعُ رجائي في يديْ ياسي

<<  <   >  >>