للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَبوة؛ وترى بينه وبين ضميرك فجوة؛ فإن خلُص إليهما فبأن يُسهِّل بعضُ الوسائل إذنه، ويمهد عندهما حاله؛ فأمابنفسه وجوهرِه، وبمكانه وموقعه، فلا. هذا قولي فيماصفا وخلُص، وهُذِّب ونقِّح؛ فلم يوجد في معناه خلل، ولا في لفظه دخَل؛ فأما المختل المَعيب، والفاسد المضطرب، فله وجهان: أحدُهما ظاهر يُشترك في معرفته؛ ويقل التفاضُل في علمه؛ وهو ما كان اختلاله وفسادُه من باب اللّحن والخطأ من ناحية الإعراب واللغة. وأظهر من هذا ما عرض له ذلك من قِبَل الوزن والذوق، فإن العامي قد يميّز بذوقه الأعاريض والأضرُب، ويفصِل بطبعه بين الأجناس والأبحُر، ويظهر له الانكسار البيّن، والزِّحاف السائغ. والآخر غامض يوصَل الى بعضه بالرواية، ويوقَف على بعض بالدّراية؛ ويحتاج في كثير منه الى دقّة الفطنة، وصفاء القريحة، ولُطف الفكر، وبعد الغوص. ومِلاك ذلك كله: وتمامُه الجامع له والزّمام عليه صحّة الطبع، وإدمان الرياضة؛ فإنهما أمران ما اجتَمعا في شخص فقصّرا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضِيا له بدون نهايته.

وأقل الناس حظّاً في هذه الصناعة من اقتصَر في اختِياره ونفيهِ، وفي استِجادته واستسقاطه على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة. ثم كان همّه وبُغيته أن يجد لفظاً مروَّقاً، وكلاماً مزوّقاً؛ قد حُشِي تجْنيساً وترصيعاً، وشُحن مطابقةً وبديعاً، أو معنى غامضاً قد تعمّق فيه مستخرِجُه، وتغلغل إليه مستَنبطه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النَّظم، وسوء التأليف، وهلهلة النّسْج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسبُر ما بينهما من نسب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدّى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوّر له الغرض، ولا الحُسنَ إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التّصنيع، وقد حملني حبّ الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادة الذكر له؛ ولو احتمل مقدارَ هذه الرسالة استقصاؤه، واتسع حجمُها للاستيفاء له لاسترسَلتُ فيه، ولأشرَفتُ بك على معظمه.

<<  <   >  >>