للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال في هذا الفصل: ومن وقف على ما ذكرته علم أني لم آت شيئاً فريا، وأن الله قد جعل تحت خاطري من بنات الأفكار سريا.

أقول إنه هنا في مقام تعظيم لما أتى به في فن الكتابة من حل المنظوم والآيات الكريمة، فقوله، شيئاً فريا ينافي هذا المقام، لأن الفري العظيم أو الشيء المختلق المصنوع، فإذا قال: ما أتيت شيئاً عظيما، أو شيئاً مختلقا مصنوعا، لم يكن ذلك مناسبا.

وأما السري فإنه النهر الصغير، ومن ذهب إلى أنه عيسى عليه السلام، بمعنى أنه واحد من سراة الناس، فإنه غلط منه.

قال لبيد يصف حمر الوحش:

فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا ... مسجورةً متجاوراً قلاّمها

فالسري: النهر الصغير. والمسجورة: صفة للعين المملوءة.

وما أحسن قول أبي المقدام الخزاعي من جملة قصيدته المشهورة في اللغز:

وسريّا رأيته وسط قوم ... ماكثا ما يريد عنهم زوالا

تشرب الخمر دونه وسقوه ... حين دارت رحاهم أبوالا

السري: هو النهر الصغير وعليه سياق الكلام. وسياق الآية الكريمة يدل على بطلان قول من قال هو كناية عن عيسى عليه السلام لأنه تعالى قال: " وكلي واشْرَبي " أي كلي من الرطب الجني، واشربي من النهر، وإذا ثبت هذا فما أدري ما معنى قوله تحت خواطري من بنات الأفكار سريا فإن أراد الذي ذهب إليه من زعم السري هو عيسى عليه السلام، فكان ينبغي له أن يقول سريات لأنه صفة لبنات، وإن كان المراد النهر فلا معنى له.

ولو قال: علم أني امتلأت من ذلك ريا، وأن الله قد جعل تحت فكري من هذا النوع سرياً.

قال أيضاً بعد ذلك: والذي يعلمها منهم يرضى بالحواشي والأطراف، ويقنع من لآلئها بمعرفة ما في الأصداف.

أقول: ما أدري معنى هذه القرينة الثانية ما هو؟ فإنه ما في الأصداف إلا اللؤلؤ ولو قال: ويترك اللآلىء ويضم الأصداف، لكان أحسن.

قال: ولو استخرج منها ما استخرجت، واستنتج منها استنتجت لهام بها في كل واد، وتزود إلى سلوك طريقها كل زاد.

أقول: هذه السجعة الأخيرة محلولة باردة لا معنى تحتها. ولو قال: لهام بها في كل واد، وارتفع لها في مظهر الربا وانخفض في مضمر الوهاد، لكان أحسن.

[ادعاء ابن الأثير الإبداع في رسالة له]

[في ذم الشيب]

قال في هذا الفصل: ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن ذم الشيب فقلت: والعيش كل العيش في سن الحداثة، وما يأتي بعدها فلا يدعى إلا بسن الغثاثة، وليس بعد الأربعين من مصيف للذة ولا مربع، وهي نهاية القوة الصالحة من الطبائع الأربع فإذا تجاوزها المرء أشفت ثمار عمره على خرصها، وصارت زيادته كزيادة التصغير تدل على نقصها، ويصبح بعد ذلك وهو يدعى أبا بعد أن كان يدعى ابنا، ويتقمص من المشيب ثوباً لا يجتر ذيله خيلاء ولا يزهى به حسنا. وإن قيل إن أحسن الثياب شعاراً البياض قيل: إلا هذا الثوب فإنه مستثنى، ويكفيه من الفظاعة أنه ينظر الأحباب إليه نظر القال، ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظ الاشتعال. ومن الناس من يدلس لونه بصبغة الخضاب، وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب، وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصدق من وحشة الكذاب. وخداع النفس أن تسلو عن بسره المعطلة وقصره المشيد، ويحسن لها الخروج في ثوب مرقع وهي تراه بعين الثوب الجديد ثم قال وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي. وهو قوله:

رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ... حدادا على شرخ الشبيبة يلبس

غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لا توجد في كلام آخر.

أقول: قد ادعى أنه ابتكر ما فيه هذا الفصل من المعاني، وأنا أذكر أبياتا تدل على أخذ كلامه منها.

قال أبو الطيب:

آلة العيش صحةٌ وشباب ... فإذا وليّا عن المرء ولّى

وقال التهامي أيضاً:

وطري من الدّنيا الشباب وروقه ... فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري

وقال ابن أبي حصينة:

كأنّ الفتى يرقى من العيش سلّما ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ

وقال سبط التعاويذي:

وعلو السن قد كس ... ر بالشيب نشاطي

كيف سموه عوا ... وهو أخذٌ في انحطاط

وقال أبو الطيب في معنى أن زيادة التصغير نقص:

وكان ابنا عدو كاثراه ... له يائي حروف أنيسيان

<<  <   >  >>