للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رمته بشهب الجو خوف انتقامه ... فأطفأها في عسجدٍ من إهابه

[مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير]

قال: ومما ذكرته في فصل من كتاب منازلة بلد، فذكرت القتال بالمنجنيق فقلت: فنزلنا بمرأى منه ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع، ونصبت المنجنيقات فأنشأت سحبا صعبة القياد، مختصة بالربا دون الوهاد. فلم تزل تقذف جلامد السور بوبل من جلمودها، وتفجؤه برعودها قبل بروقها وبروق السحب قبل رعودها، حتى غادرت الحزن منه سهلا، والعامر بلقعا محلا.

وفي هذا معنيان غريبان: أحدهما أن هذه السحب تخص الربا دون الوهاد، والآخر أن رعودها قبل بروقها.

أقول: ما أدري معنى قوله في تشبيه الغبار بأنه سحب صعبة القياد ما هو؟ وكونه ادعى أن تخصيص السحب بالربا دون الوهاد أمر غريب. في هذا تعسف، وبعض السحب تسقي الوهاد دون الربا، وبعضها بالعكس، هذا أمر محسوس. فهي إذا سقت الربا وجفت الوهاد، كانت بالربا مخصوصة وبالعكس.

وما أحسن قول أبي العلاء المعري:

ولو أن السحاب همى بعقل ... لما أروى مع النخل القتادا

ولو أعطى على قدر المعالي ... سقى الهضبات واجتنب الوهادا

وكذا دعواه في أن البروق في السحب قبل الرعود أمر غير لازم، فإن البروق قد ترى بعد الرعود وإن كانت في الغالب تكون قبل.

ولا بأس بإيراد شيء من كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هنا في ذكر المنجنيق. فمن ذلك: وكتب الخادم والمنجنيقات قد سكنت سبابتها المسلمة، وكان عدم التسليم لموادعة البلد المستسلمة.

ومنه: والحصار مستمر على صفد وقد نصب عليها من المنجنيقات غلاظا شدادا جامعة لأوصاف الزبانية، ونحن في الليل والنهار لا نسمع إلا الواحدة والثانية، والله ينجح الثالثة في عبدة الثلاثة، والبلدة عقدة وسعادة السلطان نفاثات في العقد، ما أصغى إلى الآن للمنجنيق عطفها، ولا رغم من البروج أنفها.

ومن ذلك: فما خطفوا الخطفة حتى اتبعهم شهاب ثاقب، ولا قذفوا أنفسهم في الخندق حتى قذفتهم السيوف من كل جانب، ولا أقدموا على سماء المنجنيقات لأنها قد زينت من المقاتلة بزينة الكواكب.

ومن ذلك: بعد نصب منجنيقات ترمي بأحجار متناوبة النوائب، وإذا اتبعتها الحبال مودعة خيلت أنها كواكب ذوات نوائب، وبعد أن حذرهم خطاب الخطوب من اللجاج، وبعد أن هزت النقوب أعطاف الجدران وتساقط ثمر الأبراج.

ومن ذلك: وأنا نازل على عين يصم السمع هديرها، فوق جبال يقمر العين صبيرها، تحت سماء قد رابني منها الغداة سفورها، أمامي قتال يدير كأس المنون فيها مديرها، وورائي حجار المنجنيقات التي إذا رأت نقطها حروف البروج محيت سطورها.

ومن ذلك: وجثا المنجنيق يحاكمها، ولسان حبله يخاصمها، والخادم تحت المنجنيق الإسلامي يعرض الوجه لمنجنيق الفرنج، وينقل قطع الستائر نقل قطع الشطرنج، حيث التراس بياذق والجفاتي رخاخ، وحيث القلاع صيد والحجارة حب والمنجنيقات فخاخ.

ومن ذلك: وضايقوا عكا بأبراج خشبية ضربت مع الأبراج الحجرية المصاف، وتقدموا بمنجنيقات محاربة لله ورسوله فقطعت أيديها وأرجلها من خلاف.

ومن ذلك: وفي الثغرب مجانيق لا يعطل راتبها، ولا يرصد ضاربها، أكبرها ما قتل المقاتل شدخا، وأيسرها ما جعل بيذق الهام رخا.

ومن ذلك: وقد كنا نزلنا على هذه المدينة فأردنا توقير ثغرها، وتوفيرها عن نقبها وثغرها، فلم كان ثاني يوم الأضحى وقد بلغ منا الصبر إلى غاية من لا لوم عليه في التقرب بنحرها، وقضى بأن يتل تلها للجبين، وأن لا يأخذها بالأمان بل يأخذها باليمين، فأضجعتها المجانيق وذبحتها النقوب، وجرت منها دماء في الحال أوجبت من أبرجتها الجنوب.

ومن إنشاء شيخنا القاضي شهاب الدين محمود رحمه الله من قصيدة نظمها في فتح المرقب:

وأمطرتها المجانيق التي نشأت ... ولم يكن قبلها يهمي به المطر

وكان للكسر منها كلما صنعوا ... من جنسها ولأيدي الهدم ما عمروا

كأنها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس الأسد إذ أظفارها الظفر

وكم شكى الحصن ما يلقى فما اكترثت ... يا قلبها أحديدٌ أنت أم حجر

ومن كتاب كتبه القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير في هذا الفتح أيضاً:

<<  <   >  >>