للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا ترى أنهم أوردوا على الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في قوله: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، الضمائر المستكنة في أفعال الأمر جميعاً وقالوا: هي كلمات ولم يلفظ بها اللسان. حتى إن الشيخ بدر الدين محمد بن مالك رحمه الله تعالى قال: الكلمة لفظ بالقوة أو الفعل فاحترز بقوله بالقوة من مثل الضمائر التي تتحملها أفعال الأمر، ولهذا فسر بعضهم اللفظ فقال: اللفظ ما يطرحه اللسان أو في حكمه حتى يخلص حد ابن الحاجب.

وإذا تقرر هذا فأقول: إن أنت في قوله تعالى: " اسكن أنت " ضمير آخر بارز غير الضمير المستكن في اسكن، وتقديره: اسكن أنت أنت وزوجك. ومع ذلك فلا يجوز أن يحذف الضمير الظاهر ها هنا لأنه لا يجوز عطف زوجك على الضمير المستتر، لضعف ما هو بالقوة بالنسبة إلى ما هو بالفعل. وهذا بخلاف قوله تعالى: " وإِمّا أن نكون نحنُ المُلقين ". فثبت أن صاحب المعاني إذا لم يعرف النحو، لم يدر ما يقوله.

ويمكن أن يجاب عنه ويعتذر له فيقال: إنه إنما يتكلم في التوكيد، وقوله تعالى: " اسكن أنتَ وزوجُك " ليس هو من باب التوكيد، إنما أتى به لأمر آخر وهو عدم الجواز في العطف على المضمر المستكن، وهذا غير التوكيد.

قلت: وعلى كل حال، فهي عبارة مدخولة غير سادة، تحتاج إلى قيد يخرج مثل هذا، وإلا ورد على قاعدته التي قررها، فإن القواعد تحتاج إلى أن تكون محكمة غير موهمة.

[ابن الأثير يناقش المتنبي في بعض شعره]

قال في النوع الثامن من استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات: وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك، من جملتهم أبو الطيب حيث يقول:

يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل

فإنه إذا فعل ذلك، كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه، وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه.

فأما قوله: يا بدر فإنه اسم الممدوح والابتداء به أولى، ثم يجب أن يقول بعده: يا رجل يا ليث يا غمامة يا بحر يا حمام لأن الليث أعظم من الرجل، والغمامة، أعظم من الليث والبحر أعظم من الغمامة، والحمام أعظم من البحر.

أقول: قد ناقشه ابن أبي الحديد، وقال كلاما أذكر ملخصه، وهو أن المتنبي قصد مقصدا صالحا لأنه ابتدأ بالبحر وهو دون الغمامة، لأن البحر هنا هو الذي يورد وهو مثل الغدير والنهر لا البحر الملح، فإن ذلك استقص كلي، والأنهار والغدران يتفرعا عن الغمامة، ثم انتقل فقال: يا ليث الشرى وانتقل منه إلى الحمام لأنه أعلى من الليث، لأنه لولا الحمام لم يرهب الليث. ولذكر الجود أولا قال يا بحر، ولذكر الشجاعة ثانيا قال يا ليث، وقدم الجود لأن حاجة جمهور الناس إلى الجود أكثر من حاجتهم إلى الشجاعة، انتهى، هذا ملخص كلام ابن أبي الحديد، وهو لعمري تأويل حسن، كونه عكس على ابن الأثير مقصده وجعل البيت من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وغالب الناس طعن في البيت كما طعن ابن الأثير.

قلت: وللناس فيه تأويل آخر، وهو أنه لا يلزمه الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فيما قصده، لأنه أراد وصفه بالمدح الذي ادعاه فيه قبل. وقال: يا بدر اسمه، ثم قال يا بحر، فإن لم أصدق فيما أقوله فيا غمامة، فإن لم أصدق فيا ليث، فإن لم أصدق فيا حمام لأنك تعدم نفوس أعدائك الحياة، فإن لم أصدق فيا رجل، جمع هذه الأوصاف التي ذكرتها، على أن هذا التأويل ليس في قوة ما ذكره ابن أبي الحديد ولا في حسنه.

وابن الأثير ادعى أن الحمام أكبر من البحر وأعلى ولم يبين وجه ذلك، والذي أقوله في ذلك: لأن الموت عبارة عن عدم الحياة، والبحر عبارة عن وجود الماء الكثير الغمر، والعدم أعم من الوجود، فهو أعلى منه بهذا الاعتبار ومقدم عليه. ومن هذا قوله تعالى: " الحمدُ لِلّه الذي خلَقَ السّمواتِ والأرضَ، وجعلَ الظُّلماتِ والنُّور ". قيل: إنه قدم الظلمات على النور، لأن الظلمة عبارة عن عدم النور، والعدم مقدم على الوجود. ولولا هذا التأويل في هذه الآية الكريمة، لكان قول المتنبي: يا بدر يا بحر البيت من هذا الباب.

<<  <   >  >>