للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول: قد أورد هذا الرجل من تخلصات الشعراء، كأبي تمام وأبي الطيب والبحتري وغيرهم أمثلة وما تنبه للتخلص وحسنه. أترى مثل هذا يعد من التخلصات ولو كان قال: وشقيق شق أكمامه، ورفع أعلامه، وملأ من المدام جامه، وجلا خده الأحمر وفيه من السواد شامه، وأوقد ناره فحكت جمر أشواقي وضرامه، لعد الناس هذا تخلصا. ثم ذكر فصلا آخر في البرد، وادعى أنه تخلص إلى الشوق، وهو من هذه النسبة. ثم ذكر فصلا آخر في الهدية، تخلص منها إلى الشفاعة، وهو من هذا الضرب. ثم ذكر فصلا في ذكر المودة، وتخلص إلى طلب رطب. وهو من هذا القبيل.

[التناسب بين المعاني ومناقشة أمثلة من ذلك]

قال في النوع الرابع والعشرين في التناسب بين المعاني، بعد أن أورد أمثال قول الشاعر:

ألا يا بن الذين فنوا فماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى

ومالك فاعلمن فيها مقامٌ ... إذا استكملت آجالا ورزقا

وأنكر عدم المناسبة بين إفراد الرزق وجمع الأجل، وقبحه: كنت أرى هذا الضرب واجبا في الاستعمال، وأنه لا يحسن المحيد عنه، حتى مر بي في القرآن ما يخالفه. كقوله تعالى: " أوَلم يَروا إلى ما خلَق اللهُ مِن شيءٍ يَتفيَّأ ظِلالَه عَن اليَمين والشمائل. وأورد قوله تعالى: " أولئك الذين طبَعَ اللهُ على قُلوبهم وسمْعِهم وأبصارِهم ".

وقوله تعالى: " حتى إذا ما جاؤوها، شَهِد عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم ".

أقول: لا مرية في قول الشاعر: آجالا ورزقا، أنه معيب معدود في عدم تناسب المعاني، وقد ذكره علماء البلاغة ونصوا عليه. ولو كان قال: أجلا وأرزاقا لكان أهون، فإن الأجل واحد، والرزق متعدد. وصحة الذوق تأبى مثل هذا.

وأما إيراده هذه الآيات، فإنه لم يرد الجمع مع الإفراد إلا لحكمة لم يطلع عليها ابن الأثير. وتلك الحكمة أكبر وأعظم من مراعاة المناسبة.

ويضرب إلى جهة اليسار فهو واحد، فإذا زالت الشمس وعادت إلى جهة الغرب، انعكس الظل وأخذ عن الشمال ثم صار شيئاً ف شيئاً وتعددت زياداته وفرضت النصبة. كذا لاستقبال القبلة وشرف جهتها.

ودع ذا فإن لفظة الشمائل أعذب في الجمع من الإفراد وأحلى، والعرب من عادتها مراعاة خفة الألفاظ وعذوبتها مع عدم تناسب المعاني. وأنت قررت أن من الألفاظ ما يثقل مفردا ويخف جمعا.

وأما السمع في الآيتين الكريمتين فإنما أفرد لأنه مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، فإذا اندرج بين جموع كان له حكمها، وإذا اندرج بين مفردات، كان في حكمها.

وعلى الجملة فالمصادر جمعها عيٌ، لأن معنى الكثرة موجود فيها، أو لأنه بتقدير حذف مضاف لم يحسن في غيره، كأنه تعالى قال: وعلى حواشي سمعهم. ولا يستقيم مثله في الأبصار والقلوب.

أما الأبصار، فلأنها غير مطبوع عليها ولكنها مغشاة. وأما القلوب، فلأنها غير محوية فيما له حواش يقع الختم عليها، فكان الطبع على القلوب نفسها لا على حواشيها. ومن هذا قوله تعالى: " وجعل الظُّلماتِ والنُّور " لأن الظلمات من أجرام متكاثفة، والنور من النار. فكذا اليمين والشمائل.

[مناقشة ابن الأثير في الاقتصاد والتفريط والإفراط]

قال في النوع الخامس والعشرين في الاقتصاد والتفريط والإفراط، عند ذكر التفريط: وأعلم أن للمدح ألفاظا تخصه، وللذم ألفاظا تخصه، وقد تعمق قومٌ في ذلك حتى قالوا: من الأدب أن لا يخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب. وهذا غلط باردٌ، فإن الله الذي هو ملك الملوك، قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل: " إياك نعبد وإياك نستعين ". وقد ورد أمثال في مواضع من القرآن محصورة.

أقول: استشهاده بهذا ليس مما يرد قول من ذهب إلى أن الأدب في خطاب الملوك ومن قاربهم أن لا يكون بالكاف، لأن هذه فاتحة الكتاب ومما يتلى في كل ركعة، والقرآن الكريم إنما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ومن جملة فوائده تنزيه الله عز وجل عن الشريك والولد والزوجة. فلو قيل: إياكم نعبد وإياكم نستعين، لكان فيه إشعار للمشركين والنصارى بما يقولونه من تعدد الآلهة، وكان شبهةً لمدعي ذلك.

<<  <   >  >>