للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد شارك عدياً أبو النجم، وأورده في أخصر لفظ، فقال يصف عيراً وأتانا وما أثاراه من الغبار بعدوهما رجز:

ألقى تحيت القاع من غبارها ... سرباله، وانتاع في سربالها

وأما قول النابغة: "فإنك شمس إلخ" فقد تقدمه فيه شاعر قديم من شعراء كنده، يمدح عمرو بن عند، وهو أحق به من النابغة، إذ كان أبا عذرها، فقال طويل:

تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا ... لعمرو بن عند غضبة وهو عاتب

هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كل ضوء والملوك كواكب

٨٩ قال الأصمعي: فكأني والله ألقمت جعفراً حجراً، فاهتز الرشيد فوق سريره سروراً، وكان يطير عنه عجباً وطرباً، وقال: "لله درك يا أصمعي! اسمع الآن ما كان وقع اختياري عليه "فقلت: ليقل أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقه" فقال: "عينت على ثلاثة أشعار، أقسم بالله أني أملك قصب السبق بأحدها، "فقال يحيى: "بعض على همتك، فأبى الله إلا أن يكون الفضل كله لك" ثم قال الرشيد: "أتعرف يا أصمعي تشبيهاً أفخم وأعظم، في أحقر مشبه وأصغره، وأندر شيء في أحسن معرض، من قول عنترة، الذي لم يسبقه إليه سابق، ولا نازعه منازع، ولا طمع في مجاراته فيه طامع، حين شبه ذباب الروض العازب في قوله كامل:

وخلا الذباب بها يغني وحده ... غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم

ثم يا أصمعي، هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج، وشبهت بالريح العقيم التي لا تنتج ثمرة، ولا تلقح شجرة فقلت: "كذلك هو يا أمير المؤمنين! وعزك آليت ما سمعت أحداً قط وصف شعراً أحسن من هذه الصفة، ولا استطاع بلوغ هذه الغاية" فقال: "مهلاً لا تعجل، أترعف أحسن من قول الحطيئة يصف بغام ناقته؟ أو تعلم أحداً قبله، أو بعده، شبه تشبيهه فيه حيث يقول طويل:

ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لعاباً كبيت العنكبوت المودح"

فقلت: "لا، والله! ما علمت أحداً تقدمه، ولا أشار إلى هذا التشبيه قبله، أو بعده" قال: "أتعرف أوقع أو أبدع من تشبيه الشماخبنعامة سقط ريشها وبقي أثره؟ بسيط:

كأنما منثنى أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثآليل

فقلت: "لا، والله"

٩٠ فالتفت إلى يحيى، فقال: "أوجب؟ " قال: "وجب! " قال: "أفنزيدك؟ "قال: "وأي، هو خيركم فزدني منه، يا أمير المؤمنين قال: "وقول النابغة الجعدي طويل:

رمى ضرع ناب فاستهل بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم

ثم التفت إلى الفضل، فقال: "أوجب؟ " قال: وجب! " قال: "أزيدك؟ " قال: "ذاك إلى أمير المؤمنين" قال: "قول الأعرابي طويل:

بها ضرب أذناب العطايا كأنها ... ملاعب ولدان تحط وتمصع

ثم التفت إلى جعفر فقال: "أوجب" قال: "وجب" قال: "أزيدك!؟ قال: "لأمير المؤمنين علو الرأي" قال: "قول عدي بن الرقاع كامل:

تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها

٩١ فقلت: "يا أمير المؤمنين، هذا بيت حسد عليه عدياً، جرير! "فقال: "وكيف ذاك! " قلت: "زعم أبو عمرو بن العلاء: أن جريراً قال: لما ابتدأ عدي نشد: كامل:

عرف الديار توهماً فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها

"قلت في نفسي، قد ركب والله مركباً صعباً، سيبدع فيه "فما زال يتخلص من حسن إلى أحسن إلى أن قال: تزجى أغن كأن إبرة روقه "قال فرحمته، وظننت أن عادته تقصر به، فلما قال: "قلم أصاب من الدواة مدادها" حالت الرحمة حسداً".

٩٢ قال: "لله درك يا أصمعي، "ثم أطرق، ورفع رأسه، وقال: "أتراك تغنيني عن عقلي بانحطاطك في شعبي؟! "فقلت: "كلا، يا أمير المؤمنين، إنك لتجل عن الحرش! " فقال: "انظر حسناً" قلت: "قد نظرت، قال: "فالسبق عنه؟ " قلت: "لأمير المؤمنين" قال: "فقد أسهمت لك فيه العشر، والعشر كثير! ثم رمى بطرفه إلى يحيى، فقال: "المال الساعة، وأوكى لك" قال: "فما كان ساعة، حتى نضدت البدر بين يديه، إلى أن كادت تحول بيني وبينه، ورأيت ضوء الصبح قد غلب على ضوء الشمع، فأشار إلى خادم على رأسه (كم؟) فقال: (ثلاث آلاف درهم) ، فقال: (دونك فاحتمل ثلاثين بدرة وانصرف بها إلى منزلك) ونهض عن مجلسه، وأمر الخدم بمعاونتي على تعجل حملها، فحمل كل خادم بدرة، لا يكاد يستقل بحملها.

<<  <   >  >>