للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللقلب مرتاد وللعين ممنظر

وللحاتم الصديان ريُّ بريقها ... وللمرح الذيال طيب ومسكر

[أحسن ما ورد في المقابلة]

٣٧ قال أبو علي: أخبرني علي بن الحسين القرشي قال: سألت قدامة في المقابلة فقال: "هو أن يضع الشاعر المعاني، يعتمد التوفيق بين بعضها وبعض، والمخالفة، فيأتي مع المخالف بما يخالف، وفي الموافق بما يوافق، على الصحة، ويشترط شرطاً، ويعدد أحوالاً في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه، وفيما يخالفه بأضداد ذلك.

قال: فقلت: أنشدني أحسن ما قيل في ذلك، فقال: "لا أعرف أحسن من قول الشاعر طويل:

فيا عجباً كيف اتفقنا فناصح ... وفي، ومطوي على الغل غادر

فجعل بإزاء "ناصح"، "مطوي" على الغل، وبإزاء "وفي" "غادر".

قال: وقول الطرماح بن حكيم الطائي وافر:

أسرناهم، وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم الترابا

فما صبروا لبأس بعد حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثواباً

فجعل بإزاء: أن سقوا دماءهم التراب، وقاتلوهم، أن يصبروا، وإزاء: أن أنعموا عليهم، أن يثيبوا، قال: فهذه المقابلة.

٣٨ قال أبو علي: سألت علي بن هرون عن المقابلة، فقال: كان يحيى بن علي بن نجم يقول: "وأحسن ما قيل في المقابلة، قول عمرو بن كلثوم وافر:

ورثنا المجد عن آباء صدق ... ونورثها

إذا متنا

بنينا

وقول النابغة الجعدي طويل:

فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا

[أحسن ما قيل في التسهيم]

٣٩ قال أبو علي: قلت لعلي بن هرون المنجم: ما رأيت أعلم بصناعة الشعر منك في التسهيم فقال: وهذا لقب اخترعناه نحن.

قلت: وما كيفته؟ فأجابني بجواب لم يبرزه في عبارة يحكيها عن غيره: "إن صفة الشعر المسهم، أن يسبق المستمع إلى قوافيه، قبل أن ينتهي إليها راويه، منذ الشطر الأول قبل أن يخرج إلى الشطر الأخير، ومن قبل أن يسمعه، "قال: "وأحسن ما قيل في ذلك قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثي أخاها عمراً متقارب:

وأقسمت يا عمرو لو نبهاك ... إذ نبها منك داء عضالاً

إذن نبها ليث عريسة ... مفتياً مفيداً نفوساً ومالاً

وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكي الكلالا

فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا

٤٠ قال أبو علي: فالنظر إلى ديباجة هذا الكلام ما أصفاها، وإلى تقسيماته ما أوفاها وانظر إلى قولها "مفيداً" ووصفها إياه بالشمس في النهار، والهلال في الليل، تجد المطمع الممتنع، القريب البعيد.

[أحسن ما قيل في التتميم]

٤١ قال أبو علي: وهو أن يذكر الشاعر معنىً، فلا يغادر شيئاً يتم به، ويتكامل الاشتقاق معه، فيه، إلا أتى به، فأحسن ما قيل في ذلك قول طرفة بسيط:

فسقى ديارك ... غير مفسدها

صوب الربيع، وديمة تهمي

فقد تم الإحسان في المعنى الذي ذهب إليه، بقوله "غير مفسدها".

ولا أعلم أحداً تقدمه في الاحتراس لدار عند استسقائه لها، من إفسادها وتعفيتها، ألا ترى أنهم على ذي الرمة قوله طويل:

ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

فالغيب لاحق به في ذلك، من أجل أن في دعائه للدار بانهلال القطر عليها، تعفية لرسومها، ومحواً لآياتها.

[٤٢ ومما يتلو هذا البيت في الإحسان، قول نافع بن خليفة الغنوي طويل:]

رجال إذا لم يضمن الحق منهم ... ويعطوه عاثوا بالسيوف القواضب

فإن المعنى، تم بقوله ويعطوه، وإلا كان ناقصاً.

[أحسن ما قيل في الترديد]

٤٣ هو تعليق الشاعر لفظة في البيت، متعلقة بمعنى، ثم يرددها فيه بعينها، ويعلقها بمعنى آخر في البيت نفسه ويرد هذا للمحدثين، لكنني سأورد أحسن ما في معناه لمتقدم.

٤٤ قال أبو علي: وجدت أن أبا حية النميري، سبق إلى الإحسان جميع من تقدمه من الشعراء في قوله طويل:

ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا

<<  <   >  >>