للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قال: أي بني لا تزهدن في معروف، فإن الدهر ذو صرف، والأيام ذات نوائب على الشاهد والغائب، فكم من راغب كان مرغوباً إليه، أصبح مطلوباً ما لديه، وأعلم أن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان. ثم قال: أي بني، كن جواداً بالمال في موضع الحق، بخيلاً بالأسرار عن الخلق، فإن احمد جواد المرء الإنفاق في الوجه والبر، وإن أحمد بخل المرء الضن بمكتوم السر. ولكن كما قال قيس بن الخطيم:

أجود بكمنون التلاد وإنني ... بسرك عمن سألني لضنين.

إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... ينث ويكثر الحديث قمين.

وعندي له يوماً إذا ما أتمنتي ... مكان بسوداء الفؤاد مكين.

أي بني: إن سمعت كلمة من حاسد فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها رجع الغيب على من قالها وكان يقال: العاقل هو الفطن المتغافل.

[ترجمة.]

الحسن البصري.

كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه، لما ولي الخلافة على الحسن بن أبي حسن البصري رحمه الله: أن أكتب لي بوصية الإمام العادل فكتب إليه الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين إن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل حائر، وصلح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنقها من إذ الحر والقر، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً، يكسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد وفاته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة والبرة، الرفيقة بولدها، حملتها كرهاً ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، وترضعه تارةً وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتنم شكايته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى. وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوارح بصلاحة، وتفسد بفساده. والإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر على الله ويريهم، وينقاد إلى الله. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد أأتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد ماله وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين إن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفوائش، فكيف إذا أتاه من يليها؟ وإن الله أنزل القصائص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص منهم. وأذكر يا أمير المؤمنين. الموت وما بعده، وقله أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر، واعلم يا أمير المؤمنين إن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه يطول فيه ثوابك، ويفرق أحبائك، ويسلمونك في قعره وحيداً فريداً، فتزود له ما يصلحك (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) ، وأذكر يا أمير المؤمنين (إذا بعثر ما في القبور، وأحصل ما في الصدور) ، فالأسرار ظاهرةً، والكتاب (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) . فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الآجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله في حكم الجاهلين ولا تسلك سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإن (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا زمة) فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقال فوق أثقالك ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بذهاب طيباتك في آخرتك، ولا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن أنظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، والموت موقوف بين يد الله، في مجمع ملائكته والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه بالحي القيوم. إني يا أمير المؤمنين إن لم أبلغ بعظمة ما بلغ أو لو النهى من قبلي فلم آلك شفقة ونصحاً فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه ويسقيه الأدوية الكريهة لما يرجوه من ذلك في العافية والصحة.

والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

ولما ذكرت هذه النصيحة للحسن رحمه الله أحببت أن أذكر ترجمة ونموذجاً من كلامه.

<<  <   >  >>