للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٥- إضاءة: ومما يجب اعتماده في التخلص: أن يجهد في تحسين البيت التالي لبيت التخلص، فإنه أول الأبيات الخالصة للحمد أو الذم، وأول منقلة من مناقل الفكر في ما تخلصت إليه، فيجب أن يعتمد فيه ما يكون محركا للنفس لتستأنف هزة ونشاطا لتلقي ما يرد، فإن العناية بهذا البيت نحو من العناية بالبيت الثاني من مطلع القصيد، بل ربما كانت الحاجة إلى استثارة الهزة عند الانعطاف آكد منها في استثارة ذلك عند المبدأ، لكون صدر القصيدة وسماعه يذهب بقسط من نشاط النفس ربما لم يكن يسيرا، فكانت الحاجة إلى استثارة النشاط عند أخذه في الضعف آكد من الحاجة إلى استثارته في حال توفره وجمومه.

٦- تنوير: وقد قسم الناس الخروج من جهة ما ينحى به منحى التدرج، أو الانعطاف من غير تدرج، إلى تخلص واستطراد. وتخيروا مما وقع للشعراء في لك فصولا وأبياتا.

فمما اختاروه من باب التخلص قول البحتري: (الطويل -ق- المتدارك)

شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد

كأن يد الفتح بن خاقان أقلبت ... تليها بتلك البارقات الرواعد

وقول محمد بن وهيب: (البسيط -ق- المتراكب)

مازال يلثمني مراشفه ... ويعلني الإبريق والقدح

حتى استرد الليل خلعته ... وبدا خلال سواده وضح

وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

ومما ذهب به مذهب الاستطراد من ذلك قول همام بن غالب الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

ركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب

سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب

إذا أنو نارا يقولون: ليتها، ... وقد حضرت أيديهم، نار غالب

ومما اختير من ذلك قول جرير: (الكامل -ق- المتدارك)

لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

ومن جيد الاستطراد قول حبيب في وصف الفرس: (البسيط -ق- المترادف)

فلو تراه مشيحا والحصى زيم ... ما بين رجليه من مثنى ووحدان

أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان

[هـ- معلم دال على طق العلم بالفرق بين المقصد والمقطع]

إذا كان الشاعر مقتدرا على النفوذ من معاني جهة إلى معاني جهة أو جهات بعيدة منها من غير ظهور تشتت في كلامه، وكان حسن المأخذ في ما يعضد به المعاني التي هي عمدة في كلامه من الأشياء التي يحسن اقترانها بها، بصيرا بأنحاء التدرج من بعض الأغراض والمعاني إلى بعض، بالغا الغاية القصوى في التهدي إلى أحسن ما يمكن أن تكون بنية غرضه وكلامه عليه من المعاني الشديدة العلقة بغرضه والانتساب إلى مقصده وإلى أحسن ما يمكن أن يزين به تلك المعاني المعتمدة ويبهيها مما يكون فيه إفادة مناسبة لما أفادته تلك المعاني فيكون في ذلك تقوية وتكميل لما اعتمد من المعاني الأول أو حياطة لها من الضعف والنقص. ويكون مع ذلك موفيا للمعاني المعتمدة وما ني عليها وألحق بها حقها من المبالغات وحسن الوضع، وكان مع ذلك مقتدرا على وضع العبارات عن جميع ذلك على أحسن ما يمكن أن توضع عليه حتى يتناصر إبداعه في المعاني بإبداعه في العبارات عنها، قبل فيه إنه بعيد المرامي. وهذا إنما يتفق بقوة العارضة ومعانة الطبع وكمال تصرف الفكر. وهؤلاء هم المقصدون من الشعراء المقتدرون على تعليق بعض المعاني ببعض واجتلابها من كل مجتلب.

١- إضاءة: فأما من لا يقوى من الشعراء على أكثر من أن يجمع خاطره في وصف شيء بعينه ويحضر في فكره جميع ما انتهى إليه إدراكه من صفاته التي تليق بمقصده ثم يرتب تلك المعاني على الوجه الأحسن فيها ويلاحظ تشكلها في عبارات منتشرة ثم يختار لتلك العبارات من القوافي ما تجيء فيها متمكنة ثم ينظم خارجة عن موصوفها، فهذا لا يقال فيه بعيد المرامي في الشعر، وهؤلاء هم المقطعون من الشعراء.

[الأسلوب]

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

القسم الرابع في الطرق الشعرية وما تنقسم إليه وما ينحى بها نحوه من الأساليب، والتعريف بمآخذ الشعراء في جميع ذلك وما تعتبر أحوال الكلام المخيل المقفى الموزون في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها من القوانين البلاغية.

<<  <   >  >>