للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المنهج الأول في الإبانة عن طريق الشعر من حيث تنقسم إلى جد وهزل، وما تعتبر به أحوالها في كل ذلك من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

والشعر ينقسم أولا إلى طريق جد وطريق هزل. وله قسمة أخرى من جهة ما تتنوع إليه المقاصد والأغراض، سأذكرها بعد إن شاءا لله.

فأما طريقة الجد فهي مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك.

وأما طريقة الهزل فإنها مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك.

وأنا أذكر ما تختص به كلتا الطريقتين، وما يسوغ في كل واحدة منهما مما هو خاص أو كالخاص بالأخرى.

[أ- معلم دال على طرق العلم بما يجب اعتماده في طريقة الجد]

فأما ما يجب في طريقة الجد فألا ينحرف في ما كان من الكلام على الجد إلى طريقة الهزل كبير انحراف، أولا ينحرف إلى ذلك بالجملة، لأن الكلام المبني على الجد إنما قصد به إلقاؤه بمحل القبول من أهل الجد. وكثير من أهل الجد يكره طرق الهزل، ومن لا يكرهها منهم كبير كراهة لا نغصه غير منغص على جميعهم، فلذلك يجب ألا يتعرض إليها كبير تعرض، أو لا يتعرض إليها بالجملة في طرق الجد.

١- إضاءة: وجملة ما يجب أن يتجنب في ذلك هي الجهات المختصة بالهزل، والمعاني الواقعة في تلك الجهات، والعبارات عن تلك المعاني، والجزء الواحد من العبارة الواقعة في ذلك إذا كانت قد وقعت لشهرة بجهة من جهات الهزل.

ويجب أيضاً أن يتحفظ بالنظم الجدي من أن يكون التأليف فيه على صيغة تأليف قد اشتهر وقوعه في طريقة هزلية كأنما قد حذي بذلك حذو هذا.

وجملة الأمر ألا يتعرض فيها إلى منحى من مناحي الهزل - ولو بإشارة - إلا حيث يليق ذلك بالحال والموطن، فيتصور إذ ذاك التعرض إلى ما خف من الهزل، ولكل مقام مقال.

٢- تنوير: وتختص الطريقة الجدية بأن يجتنب فيها الساقط من الألفاظ والمولد، ويقتصر فيها على العربي المحض وعلى التصاريف الصريحة في الفصاحة المطردة في كلامهم. ولا يعرج من ذلك على ما لا يدخل في كلامهم إلا بوجوه تستضعف ويتسامح في إيراد الحوشي والغريب فيها في بعض المواضع.

٣- إضاءة: ويجب في معاني الطريقة الجدية أن تكون النفس فيها طامحة إلى ذكر ما لا يشين ذكره ولا يسقط من مروءة المتكلم، وأن تكون واقفة دون أدنى ما يحتشم من ذكره ذو المروءة أو يكبر نفسه عنه، وأن تطرح من ذلك ما له ظاهر شريف في الجد وباطن خسيس في الهزل.

٤- تنوير: ومما تختص به العبارات في الطريقة الجدية أن يتحرى فيها المتانة والرصانة كما تتحرى في طريقة الهزل الحلاوة والرشاقة. وقد تأخذ الطريقة الجدية بطرف من الرشاقة كما تأخذ الطريقة الهزلية بطرف من المتانة.

[ب- معرف دال على طرق المعرفة بما يجب أن يعتمد في طريقة الهزل]

لما كان أهل طريقة الهزل يشاركون أهل طريقة الجد في كثير من المعاني والعبارات ويستعملون ذلك في كلامهم وطريقتهم بساطا إلى ما يريدونه من معاني الهزل التي هي غاية طريقتهم، وتلك المعاني والعبارات المشترك فيها هي التي هي في أنفسها كلام جدي ليس فيه تعرض لما يقدح في الطريقة الهزلية، ولم يحتج في طريقة الجد إلى شيء يكون لها بساطا من معانيا هزل، وكانت طريقة الهزل بجملتها منافية لأهل طريقة الجد، ولمك تكن طريقة الجد بجملتها منافية لأهل طريقة الهزل وجب أن تأخذ طريقة الهزل من طريقة الجد أخذا خاصا، وألا تأخذ طريقة الجد من طريقة الهزل شيئا - اللهم - إلا أن يشير مشير إلى غرض من أغراضها مما لا يقدح في طريقة الجد كبير قدح وتكون مع ذلك إشارته في المظنة اللائقة بها، فإن ذا الجد قد يأتي من الهزل بما يخف في بعض المواضع - فإن الكريم قد يطرب، وقد يحتاج إلى إطرابه، ولكل مقام مقال - لكنه يحتاج من بنى كلامه على الجد - ثم أراد أن يلم بشيء من الهزل - أن يتلطف في التدرج من الجد إلى الهزل، وأن يشعر بان ما ألم به من ذلك شيء لا حقيقة له، وإنما هو على جهة المزح والدعابة ليبسط بذلك من النفوس ويحرك. فكثير من معاني الهزل تحرك ذا الجد وتطربه وإن لم يكن من ِانه. وقد قال ابن الرومي معتذرا عن شيء وقع له من الهزل في قصيدة مدحية: (الخفيف -ق- المترادف)

وأرى أن معشر سيقولو ... ن: سخيف من الرجال لعوب

<<  <   >  >>