للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أين عنه، وأين ما يدعيه ... من علوم لحامليها قطوب

ولعمري إن الحكيم وقور ... ولعمري إن الكريم طروب

وقد قال سقراط: (حكاية الهزل لذيذة سخيف أهلها، وحكاية الجد مكروهة، وحكاية الممزوج منهما معتدل. ولا يقبل شاعر يحكي كل جنس، بل نطرده وندفع ملاحته وطيبه، ونقبل على شاعرنا الذي يسلك مسلك الجد فقط) .

١- إضاءة: ومما تختص به طريقة الهزل ويجب اعتماده فيها أن تكون النفس في كلامها مسفة إلى ذكر ما يقبح أن يؤثر، وألا تقف دون أقصى ما يوقع الحشمة، وألا تكبر عن صغير ولا ترتفع عن نازل، وألا تطرح ما له باطن هزلي وإن كان له ظاهر جدي، وأن ترد ما يفهم منه الجد إلى ما يفهم منه الهزل بتخليص ذلك إلى حيز الهزل بما يجعل مخلصا إلى ذلك من توطئة أو غير ذلك. ويقع مثل هذا بتضمين، ويقع بغير تضمين، وأكثر ما يتفق هذا مع اللفظ المشترك.

ومن هذا النوع تضمين بعضهم قول مهلهل: (طويل -ق- المترادف)

فلولا الريح أسمع من بنجد ... صليل البيض تقرع بالذكور

أبيات هجاء، فصرف البيت إلى غير مقصد مهلهل حيث وجد الألفاظ المشتركة صالحة لأن يدل بها على ذلك.

٢- تنوير: ومن ذلك أن تتحرى في عباراتها الرشاقة، وألا يتسامح في كثير من التكلف المتسامح فيه في طريقة الجد.

٣- إضاءة: ومن ذلك شيوع استعمال العبارات الساقطة والألفاظ الخسيسة ككثير من ألفاظ الشطار المتماجنين وأهل المهن والعوام والنساء والصبيان على الوجه الذي تقبل به الطريقة ذلك، وربما أوردوا ذلك على سبيل الحكاية. وهذا موجود في مجون أبي نواس كثيرا وغير منقود عليه، ذلك لأنه لائق بالموضع الذي أورده فيه من أشعاره التي بقصد بها الهزل. وليس يسوغ إيراد شيء من ذلك ولا حكايته لمن طريقته الجد. فقد عاب بعض المتكلمين في هذه الصناعة قول أبي نصر ابن نبانة: (الرمل -ق- المترادف)

وقال لنا الزمان: ظلمتموهم ... فقلنا للزمان: دع الفضولا

لأن هذا ليس من نمط ما بنى عليه كلامه من الجد، وهو أشبه بكلام الشطار. ولو ورد مثل هذا في شعر ابن حجاج وأرابه من أهل الهزل والمجون لكان مرضيا مختارا بالنسبة إلى طريقته.

٤- تنوير: ويستساغ في طريقة الهزل استعمال التصاريف التي شاعت في ألسن الناس وتكلم بها المحدثون وإن لم تقع في كلام العرب إلا على ضعف وقلة. فأما العبث في العبارات والزيادة في حروف الكلم على ما سمع من العرب كقول بعضهم: (مقصر الطويل -ق- المترادف)

شر بربت بماخور ... على دف وطنبور

فليس يقع مثل هذا لمن يقصد أن يكون كلامه عربيا. وإنما يقع لمن قصده العبث وشوب الفصاحة باللكنة والعروبة بالعجمة، فليس على مثل هذا كلام.

[ج- معلم دال على طرق العمل بما تأخذه طريقة الجد من طريقة الهزل.]

فأما ما تأخذه طريقة الجد من طريقة الهزل فهي المعاني التي في ذكرها في بعض المواضع إطراب وبسط للنفوس ومذهب في ما خف من الإحماض بحسب الأحوال التي تكون بها مستعدة لقبول ذلك.

١- إضاءة: وهذه المعاني منها ما لا يقدح في طريقة الجد كبير قدح، ومنها ما يقدح فيها أعظم القدح.

ومزايا القدح يختلف اعتبارها بحسب ما تكون عليه النفوس من التصميم في الجد أو الاقتصاد والاعتدال فيه. فيجب عند تسامح من طريقته الجد في الإحماض أن يورد من المعاني اللائقة بذلك مقدار ما يناسب طبع المخاطب، فربما عظم ما لم يكن فيه كبير قدح عند المصمم في الجد، وربما صغر عند المقتصد في الجد والمعتدل فيه ما قدحه كبير في ذلك. ولكن يجب على من طريقته الجد أن يكون ما يلم به من الإحماض في تفاريق كلامه والفلتات من أحواله مما لا يعظم قدحه في طريقة الجد. فيجب أن يضرب بها عن الإلمام بالمعاني العظيم قدحها، وعن التعرض لجهات تلك المعاني، وقد تقدم معنى الجهة فيما تقدم.

٢- تنوير: وتشارك طريقة الجد طريقة الهزل في أن ينحى بعباراتها نحو الرشاقة في المواضع التي يحسن ذلك فيها، أو يقال إن طريقة الجد تأخذ هذا من طريقة الهزل لأن طريقة الهزل به أخلق وهو بها أولى وأليق.

٣- إضاءة: وكل كلام اعتمدت فيه المراوحة بين المعاني الجدية وما لا ينافيها كل المنافاة من معاني الهزل فإنه من القسم الممتزج من جد وهزل. وهو الذي تقدمت الإشارة إليه في قول سقراط.

<<  <   >  >>