للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- والنحو الثالث، أن يتحول الشاعر عما له فيه رقة إلى ما له فيه خشونة، وينصرف عن أحد الغرضين إلى الآخر بالجملة، فيصيره غرض كلامه.

فبهذه القوانين يعتبر أسلوب الكلام، فإن كل كلام شعري لا ينفك عن أحد هذه الأنحاء. فمن يتأملها يجدها كما ذكرت، إن شاء الله.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما ينحى بالأساليب نحوه من جهة ما يقصد حسن موقعها من النفوس.

لما كان الناس بحسب تصاريف أيامهم وتقلب أحوالهم كأنهم ثلاثة أصناف: ١-فصنف عظمت لذته، وقلت آلامه حتى كأنه لا يشعر بها، ٢- وصنف عظمت آلامه، وقلت لذاته حتى كأنه لا يشعر بها، ٣- وصنف تكافأت لذاتهم وآلامهم، وكانت أحوال الصنف الأول أحوالا مفرحة وأحوال الصنف الآخر أحوالا مفجعة وأحوال الصنف الوسط في كثير من الأمر شاجية، وجب أن تكون الأقاويل مقسمة بهذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب إلى سبعة أقسام: ١- أقوال مفرحة، ٢- وأقوال شاجية، ٣- وأقوال مفجعة، ٤- وأقوال مؤتلفة من سارة وشاجية، ٥- ومن سارة ومفجعة، ٦- ومن شاجية ومفجعة، ٧- ومؤتلفة من الثلاث، كانت النفوس تختلف فيما تميل إليه من هذه الأقسام بحسب ما عليه حالها، فإنها ليست تميل إلا إلى الأشبه بما هي فيه، فيجب أن يمال بالقول إلى القسم الذي هو أشبه بحال من قصد بالقول وصنع له، وإن لم يقصد به قصد إنسان فليقتصر به على ذكر الأحوال السارة والمستطابة والشاجية، فإن أحوال جمهور الناس والمتفرغين لسماع الكلام حائمة حول ما ينعم أو يشجو.

١- إضاءة: فأما ما يجب اعتماده في تحسين الأسلوب من النفوس فذكر أفضل الأحوال الطيبة والسارة وأجدرها يبسط النفوس، وذكر أعلق الأحوال الشاجية بالنفوس وأجدرها بأن ترق لها النفوس، وذكر أدعى الأحوال الفاجعة إلى الإشفاق والجزع حيث يقصد قصد ذلك.

٢- تنوير: والأحوال المستطابة هي التي تكون فيها المدركات منعمة. والتي عليها مدار الشعر من ذلك هي مدركات الحس، مثل أن يذكر العناق واللثم وما ناسب ذلك من الملموسات، والماء والخضرة وما يجري مجراهما من المبصرات، ونسيم الطيب والروض ونحو ذلك من المشمومات، وذكر الخمر ونحوهما من المطعومات، وذكر الغناء والزمر والعزف ونحو ذلك من المسموعات. وهذه تدخل في الأحوال السارة ٣- إضاءة: والأحوال السارة نحو مجالس الأنس ومواطن السرور ومشاهد الأعراس والأعياد والمواسم وما ناسب ذلك.

٤- تنوير: والأحوال الشاجية: منها أحوال أعقبت فيها الوحشة من الأنس والكدر من الصفاء، نحو إعقاب التنعيم بالحبيب بالتألم لفراقه وإعقاب التنعم بالشبيبة بالتألم لفراقها، وإعقاب التنعم بالوطن المؤنس بالتألم لفراقه، وإعقاب التنعم بالزمن المسعد بالمتألم لفراقه؛ ومنها أحوال كان الجور فيها وضع موضع العدل والإساءة موضع الإحسان، فهي شاجية أيضا. ومن هذا تشكي جور الزمان وخون الإخوان وجري الأمور على غير ما يلائم ذا الفضل.

وكثيرا ما كان أبو الطيب المتنبي يقصد هذا الضرب والذي قله من الشاجية. فكان ذلك مما حسن موقعه من النفوس، إذ أكثر الناس لا يخلو عن بعض هذه الأحوال.

٥- إضاءة: والأحوال المفجعة هي التي يذكر فيها الإنسان ما يلحق العالم من الغير والفساد ومآل بني الدنيا إلى ذلك.

وكان أبو العتاهية يلم بذكر هذه الأحوال كثيرا في شعره، بل كان يعتمدها وذلك كثير موجود في شعره.

٦- تنوير: ويجب أن تؤنس النفوس عند استجمامها من توالي المعاني التي من شأنها أن تقبضها بمعان يناسب بينها وبين تلك مما شأنه أن يبسطها.

وكذلك لا ينبغي أن ينحى بالمعاني أبدا منحى واحدا من التخييل أو الإقناع ولكن تردف التخييلية في الطريقة الشعرية بالإقناعية، والإقناعية في الخطابة بالشعرية.

فبالتصريف في المعاني على هذه الأنحاء يحسن موقع الأساليب من النفوس. فمن نحا هذا النحو وحمل كلتا الصناعتين من الأخرى ما تحتمله، وسلك في الطرق الأساليب المسالك المؤثرة المتقدم ذكرها، وذهب بها المذاهب الملائمة للأغراض، وآنس بعض المعاني ببعض، وراوح بينها على النحو المشار إليه، كان جديرا أن ترتاح النفوس لأسلوبه وان يحسن موقعه منها.

ج- مأم من المذاهب المستشرفة بهذا المعرف وهو مذهب تأنيس المعاني بعضها ببعض.

<<  <   >  >>