للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنه إذا تمادى استمرار الشاعر في الأسلوب على معان من شان النفس أن تنقبض عنها وتستوحش منها فقد يحق عليه أن يؤنس النفوس من استحياشها ويبسطها من قبضها بمعان يكون حال النفس بها غير تلك الحال لكونها ملائمة للنفوس باسطة لها. فيميل بالأسلوب فيصوغها ويلتفت من جهات تلك المعاني الموحشة إلى جهات هذه المؤنسة ويتلطف فيما يجمع بين القبيلين من بعض الوصل والمآخذ التي بها ينتقل من بعض المعاني إلى بعض، على ما تقدمت الإشارة إليه في مواضع.

١- إضاءة: وإنما تتوالى المعاني الموحشة في الأساليب التي تذكر فيها أحوال لا تستطاب إلا لغرض. وذلك مثل ما يذكر من أحوال الخطوب وأوصاف الحروب. فقد يستطيب الإنسان ذكر إيقاع له بأعدائه، وليس كل إنسان يتشفى بذلك تشفيه، وكذلك المراثي قد يقع الإفراط في ذكر المعاني المفجعة فيها من خلصان المرثي أشفى موقع.

٢- تنوير: وليس يستعمل الكلام بالنظر إلى من قصد بالقول أولى ممن اتفق له بالعرض سكون نفس إلى ما تسكن النفوس إليه خاصة بل بالنظر إليه وإلى غيره ممن يقدر مرور ذلك الكلام على سمعه عامة. فلذلك ينبغي أن يشعشع المعاني الموحشة من جهة ما يراد إلقاؤه بمحل القبول من كل سامع بمعان مؤنسة تتعلق بغير الجهة التي تعلقت الموحشة بها، لكن يتلطف فيما يجمع بين القبلين على النحو الذي أشرنا إليه أولا، حتى لا يكون الكلام بذلك منافراً من قصد به قصدا أوليا خاصا أو قصدا ثانيا عام.

ومثل هذا قول المتنبي في ما تعلق بصفة الحرب: (البسيط -ق- المتراكب)

مازال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشي الشارب الثمل

ومن ذلك تصوير الشريف الرضي ما يبسط النفس من ذكر الكون والنشء والحمل والرضاع في مظنة ما يقبضها من حالي البلى والهمود، وذلك قوله: (البسيط -ق- المتراكب)

أرسى النسيم بواديكم، ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع

ولا يزال جنين النبت ترضعه ... على قبوركم العراصة الهمع

٣- إضاءة: وينبغي ألا يطرد في هذه المعاني المؤنسة اطراد كثيرا، فإنه خروج بالأسلوب عن مهيعه، ولكن يؤتى من ذلك بالمعنى والمعنيين ونحو ذلك في الفصل بعد الفصل ويلمع كذلك في الموضع بعد الموضع.

د- مأم من المذاهب المستشرفة بالعلم المتقدم أيضا، وهو مذهب المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية

قد تقدم الكلام في أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية والإقناع هو قوام المعاني الخطابية. واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغ، إذا كان ذلك على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع. كما أن التخاييل سائغ استعمالها في الأقاويل الخطابية في الموضع بعد الموضع. وإنما ساغ لكليهما أن يستعمل يسيرا فيما تتقوم به الأخرى، لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول لتتأثر لمقتضاه. فكانت الصناعتان متؤاخيتين لأجل اتفاق المقصد والغرض فيهما. فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب لكن في الأقل من كلامه، وللخطيب أن يشعر لكن في الأقل من كلامه.

١- إضاءة: ولما كانت النفوس تحب الافتنان في مذاهب الكلام، وترتاح للنقلة من بعض ذلك إلى بعض، ليتجدد نشاطها بتجدد الكلام عليها، وكانت معاونة الشيء على تحصيل الغاية المقصودة به بما يجدي في ذلك جدواه أدعى إلى تحصيلها من ترك المعاونة، كانت المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية أعود براحة النفس، وأعون على تحصيل الغرض المقصود. فوجب أن يكون الشعر المراوح بين معانيه أفضل من الشعر الذي لا مراوحة فيه، وأن تكون الخطبة التي وقعت المراوحة بين معانيها أفضل من التي لا مراوحة فيها. ولتواخي الصناعتين وتداخل أقاويل كلتيهما على الأخرى قال القائل: (الطويل -ق- المتدارك)

وما الشعر إلا خطبة من مؤلف ... يجيء بحق أو يجيء بباطل

٢- تنوير: وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها في ما قصد بها من الأغراض، وأن تكون المخيلة هي العمدة. وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيلة الواقعة فيها تابعة لأقاويل مقنعة مناسبة لها مؤكدة لمعانيها، وأن تكون الأقاويل المقنعة هي العمدة.

<<  <   >  >>