للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال أبو الحسن: (إن من المعاني المعبر عنها بالعبارات الحسنة ما تدرك له مع تلك العبارة حسنا لا تدركه له في غيرها من العبارات ولا تقدر أن تعبر عنه الوجه من أجله حسن إيراد ذلك المعنى في تلك العبارة دون غيرها ولا تعرب عنه كنه حقيقته، إنما هو شيء يدركه الطبع السليم والفكر المسدد ولا يستطيع فيه اللسان مجاراة الهاجس) . قال: (وهكذا يتفق في المحسومات، فإني شهدت ذات مرة مناداة على جارية، وقد بلغت مئتي دينار، فتواقف الناس فيها عن الزيادة، وظهر من الحاضرين فيها بعض زهادة، فدنا إليها سيدها فأسر إليه كلاما فمالت عنه متلفعة بردنها وازدادت بما فعلته حسنا إلى حسنها، فأبدت من الحسن كل سر لطيف، واتقت بأحسن من يد المتجردة عند إسقاط النصيف، فعلت بما فعلت قيمتها وزادت، حتى تضاعفت أو كادت، ليس إلا لحسن ذلك الدل والإشارة، وذلك شيء وإن أدركه الحس فغير معربة عن كنهه العبارة) .

فقال لي أبو المطرف: (لو سمع منك هذا أبو الفرج الجوزي لصنع في ذلك فصلا، وركب على عامله نصلا) .

٣- إضاءة: قد أشرنا إلى بعض ما ينحو الشعراء نحوه فيما يرجع إلى الأمور لفظية أو معنوية أو أسلوبية، وأومأت إلى مذاهبهم في ذلك. وكان ما تعلق من ذلك بالأسلوب هو المعتمد ذكره في هذا المعرف. وكان ذكر ما ليس راجعا إلى الأسلوب من ذلك على جهة التبعية، وذكر الشيء مع ما يناسبه جريا على عادتنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. فإنا قد نلمع في المعلم الواحد بالإشارة إلى مذاهب جمة من مذاهب البلاغة، ونومئ إلى كل مذهب من ذلك بقول كلي، إذ لو أفردنا لكل مذهب من ذلك تبويبا وترجمة عليه، وسرحنا عنان الكلام في مذهب مذهب من ذلك بعض تسريح لاتسع مجال القول وعظم حجم الكتاب، ولم نقصد ذلك، وإن كنا قد بلغنا به مبلغا كاد أن يخرج بنا إلى الإرباء على ما يجب، إذ أوقات التخلي والنظر لا تنفسح لاستقصاء العلوم. ولكن يجب، أن تناط العناية منها بالمتأكد فالمتأكد. فلذلك اكتفينا من هذا العلم بما لم يكن بد من معرفته لمن أراد النظر فيه.

ج- معلم دال على طرق العلم بما يجب أن يعتقد ويقال في المفاضلة بين الشعراء، بحسب اختلاف الأزمنة والأحوال المهيأة لقول الشعر والباعثة عليه.

إن المفاضلة بين الشعراء الذين أحاطوا بقوانين الصناعة وعرفوا مذاهبها لا يمكن تحقيقها، ولكن إنما يفاضل بينهم على سبيل التقريب وترجيح الظنون. ويكون حكم كل إنسان في ذلك بحسب ما يلائمه ويميل إليه طبعه، إذ الشعر يختلف في نفسه بحسب اختلاف أنماطه وطرقه، ويختلف بحسب اختلاف الأزمان وما يوجد فيها مما شأن القول الشعري أن يتعلق به، ويختلف بحسب اختلاف الأمكنة وما يوجد فيها مما شأنه أن يوصف، ويختلف بحسب الأحوال وما تصلح له وما يليق بها وما تحمل عليه، ويختلف بحسب اختلاف الأشياء فيما يليق بها وما تحمل عليه، ويختلف بحسب اختلاف الأشياء فيما يليق بها من الأوصاف والمعاني، ويختلف بحسب ما تختص به كل امة من اللغة المتعارفة عندها الجارية على ألسنتها.

١- إضاءة: ولأن الشعر يختلف بحسب اختلاف أنماطه وطرقه نجد شاعرا يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة من الشعر ولا يحسن في النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة، وآخر يحسن في النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة ولا يحسن في النمط الذي يقصد به الجزالة والمتانة. ونجد بعض الشعراء يحسن في طريقة من الشعر كالنسيب مثلا ولا يحسن في طريقة أخرى كالهجاء مثلا، وآخر يكون أمره بالضد من هذا.

٢- تنوير: ولأن الشعر أيضاً يختلف بحسب اختلاف الأزمان وما يوجد فيها وما يولع به الناس مما له علقة بشؤونهم، فيصفونه لذلك ويكثرون رياضة خواطرهم فيه، نجد أهل زمان يعنون بوصف القيان والخمر وما ناسب ذلك ويجيدون فيه، وأهل زمان آخر يعنون بوصف الحروب والغارات وما ناسب ذلك ويجيدون فيه، وأهل زمان آخر يعنون بوصف نيران القرى وإطعام الضيف وما ناسب ذلك ويجيدون فيه.

<<  <   >  >>