للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:

٨- تنوير: فأما من يذهب إلى تفضيل المتقدمين على المتأخرين بمجرد تقدم الزمان فليس ممن تجب مخاطبته في هذه الصناعة، لأنه قد يتأخر أهل زمان عن أهل زمان ثم يكونون أشعر منهم لكون زمانهم يحوش عليهم من أقناص المعاني بسفوره لهم عن أشياء لم تكن في الزمان الأول، ولتوفر البواعث فيه على القول وتفرغ الناس له، كالحال في إجادة الشعراء الذين كانوا في زمان ملوك آل جفنة وملوك لخم، ومن كان في زمانهم من ملوك العرب وأجوادها، فإن تلك الحلبة تقدمت بالإحسان من تقدمها بالزمان، والسبب في ذلك ما ذكرته. وهذه الحلبة هي حلبة زهير والنابغة والأعشى ومن جرى مجراهم وانخرط في سلكهم.

وقد وقعت في المفاضلة بين الشعراء أقوال لا يعتد بها وآراء لا يحسن الاشتغال بذكرها والرد عليها عما هو أهم من ذلك. فإن تلك الآراء أظهر فسادا لمن له أدنى معرفة بهذه الصناعة من أن يحتاج في ذلك إلى تكلف حجة أو استدلال، وإنما الرأي الصحيح الذي عليه المعول من أن للشعر اعتبارات في الأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا يجب أن يقطع بفضل شاعر على آخر بأنه ساواه في جميع ذلك، ثم فضله بالطبع والقريحة. وهذا أمر يتعذر تحري اليقين فيه، وإنما يمكن التقريب والترجيح بينهما بحسب ما يغلب على الظن.

٩- إضاءة: فأما المفاضلة بين جماهير شعراء توفرت لهم الأسباب المهيئة لقول الشعر والأسباب الباعثة على ذلك، وقد أومأت إليها في صدر الكتاب، وبين جماهير شعراء لم تتوفر لهم الأسباب المهيئة ولا البواعث، فلا يجب أن نتوقف فيها بل نحكم حكما جزما أن الذين توفرت لهم الأسباب المهيئة والباعثة أشعر من الذين لم تتوفر لهم. وذلك كما تفضل شعراء العراق على شعراء مصر. ولا نتوقف في ذلك، إذ لا مناسبة بين الفريقين في الإحسان في ذلك، كما لا تناسب بينهم في توفر الأسباب، وإن كان أكثر تلك الأسباب أيضاً في الصعق العراقي قد تغير عما كان عليه في الزمان المتقدم.

[د- معرف دال على طرق المعرفة بمبلغ هذا الكتاب من أصول هذه الصناعة]

قد تكلمنا من هذه النصاعة في جملة مقنعة. وبقيت أشياء لا يمكن تتبعها لكثرة تشعبها وتعذر استقصائها، وأشياء يمكن استقصاؤها أو استقصاء عامتها بعد طول.

فأما ما يعز استقصاؤه فذكر ما به يكون كمال الشعر أو تفضيل القول في مهيئات له والأدوات والبواعث عليه. ومن ذلك اعتبار كل نمط من أنماط اللفظ بكل نمط يوقع فيه من أنماط المعاني والنظام والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من المعاني بكل نمط يصلح به من أنماط اللفظ والنظام والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من النظم بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعاني والأساليب والأوزان. واعتبار كل نمط من أنماط الأساليب بما يصلح به من أنماط الألفاظ والمعاني والنظام والأوزان واعتبار كل نمط من أنماط الأوزان بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعنى والنظم والأسلوب، والتمييز بين ما يكون ملائما لم وضع بإزائه من جميع ذلك وما يكون منافراً لوضعه.

<<  <