للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٥- إضاءة: وملاحظات الشعراء الأقاصيص والأخبار المستطرفة في أشعارهم ومناسبتهم بين تلك المعاني المتقدمة والمعاني المقاربة لزمان وجودهم، والكائنة فيها التي يبتون عليها أشعارهم مما يحسن في صناعة الشعر. ويجب للشاعر أن يعتمد من ذلك المشهور الذي هو أوضح في معناه من المعنى الذي يناسب بينه وبينه ويعلقه على طريق التشبيه أو التنظير أو المثل أو غير ذلك. ويسمى ما تسبب إلى ذكره من القصص المتقدمة المأثورة بذكر قصة أو حال معهودة الإحالة لأن الشاعر يحيل بالمعهود على المأثور.

٦- تنوير: وإذا وقعت الإحالة الموقع اللائق بها فهي من أحسن شيء في الكلام، فلتذكر ما مضى من الأمور التي يقل نظيرها في ما هي عليه من الأوصاف التي تميل النفوس أو تنفر عنها موقع عجيب من النفوس. فتتحرك النفوس بما قد ارتسم فيها من صفة القصة الأولى إلى اعتقاد القصة الأخرى على مثل تلك الصفة. هذا إذا كانت الإحالة على سبيل المحاكاة.

٧- إضاءة: وإذ قد تبين هذا فالواجب ألا يستعمل فيا لشعر من الأخبار إلا ما شهر، وألا يستعمل فيه شيء من معاني العلوم والصنائع، ولا شيء من عباراتهم إذا كان الغرض مبنيا على ما هو خارج عن تلك العلوم والصنائع. فأما إذاك أن غرض الشعر مبنيا على وصف أشياء علمية أو صناعية ومحاكاتها والتخييل في شيء شيء منها فإيراد تلك المعاني والعبارات غير معيب في ذلك الغرض، لأن للشاعر أن يحاكي شيئا من جميع الموجودات ويخيل في واحد واحد منها ما تميل إليه النفوس أو تنفر عنه.

٨- تنوير: ومما تسبب فيه إلى ذكر ما ليس الكلام مبنيا عليه من المعاني والكلامية والنحوية قول أبي تمام: (البسيط -ق- المتراكب)

مودة ذهب، أثمارها شبه ... وهمة جوهر، معروفها عرض

لأن الجوهر والعرض من ألفاظ المتكلمين الخاصة بصناعتهم. قوله في ما يرجع إلى صناعة النحو: (الكامل -ق- المترادف)

خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء

وقول أبي العلاء المعري في مثل ذلك: (الطويل -ق- الترادف)

تلاق تفرى عن فراق تذمه ... مآق، وكسير الصحائح في الجمع

وحكي أن عز الدولة قال لندمائه: (لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر) . فأنشد كل منهم ما حضره. فلما انتهى القول إلى أبي الخطاب ابن ثابت الصابي -وكان أبو طبيبا - أنشد قول أبي العتاهية: (الخفيف -ق- المترادف)

قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة عتبة حقا

فتنفست ثم قلت: نعم حبا ... جرى في العروق عرقا فعراق

فقال له بختيار: (لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي لم ترثها عن كلالة) .

وكان بعض الأدباء إذا سمع قول المهلبي: (الكامل -ق- المترادف)

يا من له رتب ممككنة ... القواعد من فؤادي

قال: (هذا يصلح أن يكون شعر بناء) .

وحكى أبو عثمان الجاحظ قال: (أنشدت أبا شعيب القلال أبيات أبي نواس التي أولها: (الطويل -ق- المتدارك)

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس

فقال: (هذا شعر لو نقرت فيه طن) فوصفه من طريق صناعته.

وقد أوردنا هذه الأمثلة على غير ما أوردها غيرنا. فكل ما انتسب إلى صناعة من الصنائع، انتساب ما ذكر من حيث هو معنى راجع إليها أو عبارة مستعملة فيها، فليس يحسن استعماله في الشعر، إذ الواجب أن يقتصر بالأشياء على ما هي خاصة به، وألا يخلط فن بفن بل يستعمل في كل صناعة ما يخصها ويليق بها، ولا يشاب بها ما ليس منها.

يج- معلم دال على طرق العلم بأنحاء النظر في المعاني، من حيث تكون قديمة متداولة، أو جديدة مخترعة.

إن من المعاني ما يوجد مرتسما في كل فكر ومتصورا في كل خاطر، ومنها ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض، ومنها ما لا ارتسام له في خاطر وإنما يتهدى إليه بعض الأفكار في وقت ما فيكون من استنباطه. فالقسم الأول هي المعاني التي يقال فيها أنها كثرت وشاعت، والقسم الثاني ما يقال فيه إنه قل أو هو إلى حيز القليل أقرب منه إلى حيز الكثير، والقسم الثالث هو المعنى الذي يقال فيه إنه ندر وعدم نظيره.

<<  <   >  >>