للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهذا هو الرأي الصحيح في الخزم الذي عول عليه الحذاق بأخذ الكلام عن العرب وفهم مذاهبهم فيه. وقد وجدنا الكتاب والبلغاء يرصعون الأسجاع بالأبيات ويجعلونها مبادي للأبيات والأبيات خواتم لها، حتى ربما أنهم لم يقدموا قبل البيت أكثر من لفظة واحدة وربما اكتفوا في ذلك بواو العطف. ولا يعتقدون أن تلك الألفاظ والحروف من متون. وهكذا كانت مآخذ العرب في ذلك. وإنما خفي هذا المذهب على من جهل مآخذ الكلام ومقاطعه وضروب وضعه وأفانين منازعه.

٥- إضاءة: وإذ قد تبين هذا فلنعد إلى ذكر ما يستحسن من ضروب الزحاف ويستقبح، ونؤصل في ذلك أصلا يعرف بما يجب أن يعتمد من ذلك عند الحاجة إليه، وما يجب أن يجتنب. فأقول: إن مما يخل بالأوزان من ضروب الزحاف، ويزيل كثيرا من حلاوتها وتناسبها، فيجب أن يجتنب على كل حال، أربعة أشياء: الزحاف المزدوج كله.

والزحاف المؤدي إلى أن يصير الجزء الذي وضع لأن يماثل جزءا آخر ويقابله مضادا له، وقد تقدم التعريف بذلك.

والوجه الثالث السواكن التي تكون أواخر أجزاء هي مظان وقفات واعتمادات ولاسيما إذا كان ذلك نهاية شطر بيت كالسواكن الخيرة من فاعلاتن في عروض الخفيف، والحال في ساكن فاعلاتن الذي في أوائل أشطاره على نحو من ذلك في أنه يقبح حذفه.

والوجه الرابع مما جب اجتنابه من الزحافات حذف السواكن التي يؤدي حذفها إلى توالي ثلاثة متحركات عقيب توالي أربعة سواكن كالنون من مستفعلن في الخفيف.

فهذا هو الرأي الصحيح الذي يشهد بصحته الذوق والقياس والسماع.

٦- تنوير: وجملة ما يجب أن يعتمد في اعتبار مجاري النظم، من جهة ما يزاحف أو يعل من أسبابه وأوتاده، أن يجعل قانون الاعتبار الصحيح في ما يجب أن يؤثر من ذلك أن توجد الوزان جارية من جميع ذلك على ما يحسن في السمع ويلائم الفطرة السليمة الذوق، ويوجد مع ذلك كثيرا مطردا في أشعار فصحاء العرب. فيكون حينئذ موافقا لمجاري كلام العرب الصحيحة مع كونه وفقا للنفوس والأسماع. ومن كان صحيح الذوق وحصر مجال النظر ومواضع البحث في الأعاريض والقوافي ومجاري الأوزان ثم تصفح كلام المجيدين من العرب والمحدثين ونظر منها في كل موضع للنظر، فأثبت ما كان ملائما ومطردا ونفى ما كان منافراً غير مطرد، فقد استضاء بآية التوفيق المبصرة وورد صوب الإصابة من منشإ سحائبه الممطرة.

٧- إضاءة: وأما من لا ذوق له فقلما يتأتى له التوصل إلى تمييز ما يحسن في مجاري الأوزان ومباني النظم مما يقبح فيهما، إذ أكثر من ألف في هاتين الصناعتين مشفق من أن ينسب إلى العرب قبحا في مجرى من مجاري كلامها إلا في الندرة. فهم يتلقون كل ما روي لهم من كلامهم - صحت الرواية أو لم تصح - بالتسويغ والتحسين. ولا ينسبون إليهم إساءة إلا حيث تعييهم الحيل في الاعتذار عنهم.

فهذا رأي نحوي هو في الطرف مما يراه البلغاء من ألا يتسامح في وقوع ما يقبح وقبوله على أنه غير قبيح لعربي ولا محدث. ولا يعتبر الكلام بالنسبة إلى قائل ولا زمان البتة. وإنما يعتبر بحسب ما هو عليه في نفسه من استيفاء شروط البلاغة والفصاحة بحسب ما وقع فيه أو استيفاء أكثرها أو وقوع أقلها فيه أو عدمها بالجملة منه ووجود نقائضها أو أكثرها. فبهذا النحو يصح الاعتبار.

[د- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء النظر في بناء الأشعار على أوفق الأوزان لها.]

لما كانت الأوزان متركبة من متحركات وسواكن اختلفت بحسب أعداد المتحركات والسواكن في كل وزن منها، وبحسب نسبة عدد المتحركات إلى عدد السواكن، وبحسب وضع بعضها من بعض وترتيبها، وبحسب ما تكون عليه مظان الاعتمادات كلها من قوة أو ضعف أو خفة أو ثقل، وصار لكل وزن بحسب مخالفته لجميع الأوزان في الترتيب والمقدار ومظان الاعتماد ونسبة عدد المتحركات إلى عدد السواكن أو في بعض هذه الأنحاء الأربعة دون بعض، ميزة في السمع وصفة أو صفات تخصه من جهة ما يوجد له رصانة في السمع أو طيش، ومن جهة ما يوجد له سباطة وسهولة أو يوجد له جعودة وتوعر، ومن جهة ما يوجد باهيا أو حقيرا وغير ذلك مما يناسب فيه المسموع المرئي. ولا بد من أن يكون كل وزن مناسبا لغيره من إحدى هذه الجهات مناسبة قريبة أو بعيدة.

<<  <   >  >>