للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١٧- إضاءة: وليس الأمر في ما ذكرته كالأمر في المسائل العلمية. فإن أكثر الجمهور لا يمكن تعريفهم إياها, مع أن أحدهم إذا أمكن تعريفه إياها لم يجد لها في نفسه ما يجد للمعاني التي ذكرنا أنها العريقة في طريقة الشعر, لكون تلك المعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس الحسن والقبح والغرابة واضحا فيها وضوحه في ما يتعلق بالحس. وأيضا فإن المعاني التي تتعلق بإدراك الحس هي التي تدور عليها مقاصد الشعر, وتكون مذكورة فيه لأنفسها. والمعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس لمقاصد الشعر حولها مدار. وإنما تذكر بحسب التبعية للمتعلقة بإدراك الحسن لتجعل أمثلة لها, أو ينظر حكم في تلك بحكم في هذه, فيكون التمثيل والتنظير فيهما من قبيل تمثيل الأشهر بالأخفى وتنظير الأظهر بالأخفى. وهذه الحال في التمثيل والتنظير مناقضة للمقصود بهما, إذ المقصود بهما محاكاة الشيء بما النفوس له أشد انفعالا حيث يقصد بسطها نحو شيء أو قبضها عنه. وأيضا فإن المسائل العلمية يستبرد إيرادها في الشعر أكثر الناس ولا يستطيب وقوعها فيه إلا من صار من شدة ولوعه بعلم ما, بحيث يتشوف إلى ذكر مسائل ذلك العلم, ويجب إجراءها ولو في المواطن التي لا تليق بها ولا تقبلها البتة لكون التفرع الكلي للراحة والأنس والتفرج أو ضد ذلك قد حجر ذكرها. وأكثر الناس يستبردون ذكر الشيء من ذلك, حيث لا يليق, استبرادهم قول القائل: "والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك" في المواطن الذي قالها.

١٨- تنوير: وإنما يورد المعاني العلمية في كلامه من يريد التمويه بأنه شاعر عالم. وقد بينا أنه فعل نقيض ما يجب في الشعر. فلم يثبت له أنه قال شعرا إلا عند من لا علم له. وأما العلم فلا يثبت أيضاً للشاعر بأن يودع شعره معاني منه. فليس يبعد على الناظم إذا كان قد تصور مسائل من علم وإن قلت أن يعلقها ببعض معاني شعره ويناسب بينها وبين بعض مقاصد نظمه.

١٩- إضاءة: ومن كان مقصده أيضاً أن يظهر أنه مقتدر على المناسبة بين المتباعدين وأن يغطي بحسن تأليفه ووضعه على ما بينهما من التباين بعض التغطية, فإنه يكد خاطره في ما لا تظهر فيه صناعته ظهورها في غيره, ولا يتوصل بعد ذلك إلى الغرض المقصود بالشعر من تحريك النفوس. فأولى بمن هذه صفته أن يجعل موضوع صنعته ما يتضح فيه حسن صنعته ويكون له تأثير في النفوس وتحريك لها وحسن موقع منها من أن يجعل موضوع صنعته ما لا يدل, مع كونه لا يحرك الجمهور ولا يتضح فيه إبداع الصنعة, دلالة قاطعة. فقد يمكن أن يتدرب إنسان في المناسبة بين بعض الأغراض المقولة في الشعر وبين بعض المعاني العلمية. وتحصل له بمزاولة ذلك والحنكة فيه دربة لا تكون له في تأليف معاني الشعر المحضة والمناسبة بين بعضها وبعض. وقد يمكن أيضاً أن يقع ذلك له اتفاقا في بعض المواضع من غير أن يكون له تلك قوة مستمرة في غير ذلك من شعره. فقد بان أن مستعمل هذه المعاني العلمية في شعره يسيء الاختيار, مستهلك لصنعته, مصرف فكره في ما غيره أولى به وأجدى عليه. والولع بنظم هذه المسائل العلمية في الشعر (..........................................) (.........) التي يتصور بها الغرض في تلك المعاني الخارجة عن الذهن على أكمل ما ينبغي وأشده مناسبة للنفس.

فهذه لمحة إجمالية ترشد إلى جهات اقتباس المعاني, وإلى الأنحاء التي تستحسن في تأليفها واقترانها والنقلة من بعضها إلى بعض. ومنع من تفصيل ذلك الاضطرار معه إلى الإطالة الكثيرة. فليتول الناظر تفصيل ذلك بنفسه, فإنه مفيد في هذه الصناعة. وبالله الاستعانة على كل محاولة, وبه التوفيق.

[د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات تركيب المعاني وتضاعفها.]

إن المعاني قد تكون مفردة الأجزاء ومتضاعفتها, وقد يكون بعض أجزائها مفردا وبعضها مضاعفا. وذلك بحسب تعدد الأفعال الواقعة في المواطن التي يعبر عما وقع فيها أو اتحادها, وبحسب تعدد ما تستند إليه تلك الأفعال أو اتحاده, وبحسب تعدد ما تتوجه لطلبه من المفعولات أو اتحاده.

وما يتركب من جهة التعدد والاتحاد في جميع ذلك, واقتران كل واحد من الأفعال وما تستند غليه, وما تطلبه بالآخر على حال موافقة له في التعدد والاتحاد أو مخالفة, تنقسم ثمانية أقسام: ١- متحد الفاعل, متحد المفعول, متعدد الفعل

<<  <   >  >>