للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤- تنوير: وينبغي ألا يسرف في الاستنكار من هذا الفن من الصنعة، فإنه مؤد إلى التكلف وسآمة النفس. ولكن يلمع بذلك في بعض نهايات الفصول دون بعض، وبحسب ما يعن للخاطر من ذلك ويسنح من غير استكراه ولا تكلف في وزن أو قافية أو هيأة نظامية بالجملة.

وإنما يجب أن يقتضب الخاطر من ذلك ما ناسب الغرض ووسعه مقدار الشعر وتمكن فيه رويه ولم يكن قلقا في موضعه من جهة لفظ ولا معنى. وإنما يسنح الكلام على هذا في بعض المواضع.

فلذلك كان اعتماد التمثل والحكمة على أعقاب كل فصل دليلا على التكلف وداعيا إليه. ولذلك عيب كلام قوم من قدماء المولدين حيث اعتمدوا ذلك في أكثر كلامهم، فدل ذلك على التكلف وأوقع في السآمة، ولم يبق للحكمة جدة ولا طراءة.

وإنما يحسن الكلام بالمراوحة بين بعض فنونه وبعض والافتنان في مذاهبه وطرقه، فيزداد حب النفس لما يرد عليها من ذلك إذا كانت زيادته غبا.

المنهج الرابع في الإبانة عن كيفية العمل في إحكام مباني القصائد وتحسين هيآتها، وما تعتبر به أحوال النظم في جميع ذلك من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بإحكام مباني القصائد وتحسين هيآتها وما تجب العناية بالتأنق فيه من ذلك وما تتأكد العناية به وما تتأكد فيه عند قوم ولا تتأكد عند آخرين.

إن من القصائد ما يقصد فيه التقصير، ومنها ما يقصد فيه التطويل، ومنها ما يقصد فيه التوسط بين الطول والقصر.

فأما المقصرات فإن القول فيها إذا كان منقسما إلى غرضين لم يتسع المجال للشاعر لأن يستوفي أركان المقاصد التي بها يكمل التئام القصائد على أفصل هيئاتها، وربما استوفى ذلك الحذاق مع ضيق المجال عليهم باقتضاب الأوصاف الضرورية في الجهات بالنسبة إلى الغرض والتلطف في إبداع النقلة من بعضها إلى بعض على الوجوه الملائمة الموجزة.

فأما المتوسطات والمطولات فالمجال فيها متسع لما يراد من ذلك.

١- إضاءة: والقصائد: منها بسيطة الأغراض ومنها مركبة. والبسيطة مثل القصائد التي تكون مدحا صرفا أو رثاء صرفا. والمركبة هي التي يشتمل الكلام فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح. وهذا أشد موافقة للنفوس الصحيحة الأذواق لما ذكرناه من ولع النفوس بالافتنان في أنحاء الكلام وأنواع القصائد.

٢- تنوير: فأما كيفية العمل في القصائد المشتملة على نسيب ومديح فإن كل قول نسيبي لا يخلو من أن يكون متعلقا بوصف المحبوب ومحاكاته أو وصف بعض أحواله وما له بذلك علقة من زمان أو مكان أو غير ذلك، أو يكون متعلقا بوصف المحب أو وصف بعض أحواله وما له بذلك علقة، أو يكون متعلقا بوصف حال تقاسماها معا.

فأكثر ما تبدأ القصائد الأصيلية بما يرجع من ذلك إلى المحب: كالوقوف على الربوع والنظر إلى البروق ومقاساة طول الليل.

وأكثر ما تبدأ بعد هذا بما يرجع إلى المحب والمحبوب معا مما يسوء وقوعه كوصف يوم الفراق وموقف الوداع.

والافتتاح بما يخص المحبوب أقل من ذلك.

٣- إضاءة: ويستحسن إرداف ما يرجع إلى المحب والمحبوب معا مما يشجو وقوعه بذكر بعض ما هو راجع إليهما مما يسر وقوعه، إذ في ذلك ضرب من المقابلة وتدارك للنفوس كم إيلامها بالشاجي الصرف، بأن تعرض عليها المعاني التي تلتذ بتخيل ما يعنى بها وإن آلمها مغيبه أو انقضاؤه.

٤- تنوير: وأحسن ما ابتدئ به من أحوال المحبين ما كان مؤلما من جهة ملذا من أخرى كحال التذكر والاشتياق وعرفان المعاهد. فإن هذه الأحوال وإن كانت مؤلمة للنفوس فإن لكثير من النفوس في تخيل ما يتذكر ويشتاق إليه ويحن إلى عهده لذة ما وتشفيا، يكاد ينقع الغلة من حيث أذكاها ويس النفس من حيث أشجاها وأبكاها. ثم يتدرج من ذلك على ذكر ما يؤلم من بعض الأحوال التي لها علقة بهما معا، ثم إلى ذكر ما يؤلم ويلذ من الأحوال التي لها بهما أيضاً علقة، ثم ينتقل من ذلك إلى ما يخص المحبوب من الأوصاف والمحاكاة، ثم يحتال في عطف أعنة الكلام إلى المديح، فهذا هو الموضع التام المتناسب. وهو الذي يعتمده امرؤ القيس في كثير من قصائده. ولا يحسن أن يبدأ بالمؤلم المحض. وقد يقع ذلك لكثير من الشعراء. ويكون الترتيب على غير ما ذكرته، لكن الذي ذكرته أحسن.

<<  <   >  >>