للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمنت به قرطبة مدة طويلة، وكان إذا حصل شيء من المال أعطي منه المقاتلة فأجلهم وفارسهم، وصير ذلك بأيدي ثقات من أهل الخدمة. فإن فضل شيء من المال أعطي من المقاتلة، تركه بأيديهم مشهوداً به عليهم إلى أن يتبين وجه لصرفه فيه، ولا يدخل إلى داره منه شيء وإذا سئل قال: (ليس لي عطاء ولا منع، وهو للجماعة وأنا أمينهم) ، وإذا أراد أمراً وعزم على تدبيره أحضرهم، ووافقوه وإذا خوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء. وأعطى السلطان قسطه من النظر لنفسه، وأظهر البخل الشديد والمنع الخالص. وكان شديد التواضع عفيف لم تعثر له على حال تدل على ريبه. مقبلاً على القيادة واستمر في تدبير قرطبة وكف البرابرة عنها بالرفق في المعاملة، حتى حصل منهم على السلم، إلى أن توفي في يوم السادس من المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.

وقام بالأمر بعده أبو الوليد محمد ولده وتنافس ولداه في خلافته. وجرت في ذلك أحوال تقررت على أن يكونا شريكين، عبد الرحمن ولده الأكبر على أمر الجباية، والنظر في أهل الجزية، والتوقير في الكتب السلطانية في الحل والعقد، وجميع أبواب النفقات. وعبد الملك ولده الأصغر على الجيوش والأخبار والقبض والعطا والركوب فيهم وتجريدهم في البعوث وغير ذلك مما يتعلق بهم.

قال ابن بسام: وكان عباد قد خامر صدره فرسان ابن السقا منذ تغلبت دولة بني جهور ما لا يسعه كتمه حسداً لبني جهور. وكان ابن السقا من الاستقلال بحيث لا يتأثر له فبعث عباد بن عبد الملك إلى ابن جهور المقدم ذكره، من أغراه بالفتك بابن السقا. وأغرى ابن السقا بطلب الملك إلى أن جرى من أمرهما ما جرى. فلما تفرد يحيى بن ذي عباد بالأمر بعد ابن السقا، وانقبض ابن عبد الملك، وكان في نفس يحيى بن ذي نون من الشغف بقرطبة، ما سهل عليه إنفاق المال وهلك عباد، وصار الأمر على ابنه المعتمد سنة إحدى وستين.

فلما كان آخر سنة اثنين وستين وأربعمائة، وزحف ابن ذي النون إلى قرطبة واحتاج عبد الملك بن جهور إلى الاستنجاد بالمعتمد بن عباد، لعجزه عما كان أسند إليه من أمر قرطبة، فأمده ابن عباد بجمهور أجناده فوافوه قرطبة، ونزلوا بالجانب الشرقي منها، وأقاموا بها أياماً يحمونها وينتهزون الفرصة فيها. فلما طال على ابن ذي النون سفره ورحل، وأظهر أجناد عباد العزم على الرحيل، وتأهب عبد الملك لتوديعهم، لم يشعر عبد الملك بهم، حتى أحدقوا بالقصر وقبضوا عليه وعلى إخوته وسائر أهل بيته. وبالغوا في قتل حرمه واستصفاء نخبتهم، وأخرج أبو الوليد ومعه أشراف الأندلسيين مفلوجاً مغلوباً على نفسه. لم يرعوا له حقاً ولم يحفظوا له حرمة. فلما توسطوا به قنطرة قرطبة وهو على حالة سيئة رفع يديه إلى السماء. وبالغ في الدعاء، وقال فيه: اللهم كما أجبت الدعاء لنا فأجبه فينا فمات بعد أربعين يوماً من نكبته، وزوال نعمته بجزيرة شلطين وأقام بنوه هناك أكثر أيام المعتمد حتى انقرض أمرهم.

[فصل في ذكر أبي الوليد الفرضي]

قال ابن بسام كان من العلماء وحكى عن نفسه قال: تعلقت بأستار الكعبة وسألت الله الشهادة في الحرب، وفكرت في هول القتل، فندمت وهممت أن أرجع، وأستقبل الله ذلك فاستحييت، ثم قتل رحمه الله عند دخول البرابرة قرطبة سنة أربعمائة. قال أبو حزم أخبرني من رآه بين القتلى يومئذ في آخر رمق، وهو يقول: لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء وجرحه يوم القيامة يبعث دماً؛ اللون لون الدم والريح ريح المسك، كأنه يعيد على نفسخ الحديث الوارد في ذلك ثم قضى نحبه هناك.

فصل مقتل أحمد بن عباس قال ابن بسام كان أديباً فاضلاً كاتباً كافياً إلا أنه ممن استولى عليه العجب، وملكه التيه، واستفزه الفرح، وغطى على عينيه الكبر وأفضى الأمر على هلاكه وهلاك سلطانه زهير مولى بني عامر. قال في كلام طويل وحديث عريض إنه لما ظفر به باديس أخر قتله واعتقله وأطلق من كان أسر معه. وبذل عن نفسه الرغائب فأعرض عنها باديس واشتد جزعه على نفسه. وكان شديد الترفه وعظمت مصيبته وثقل عليه الحديد. لم يزل الأمر يتردد إلى أن قويت نفس باديس على قتله بنفسه مع أخيه بلقين. فلما عاد يوماً من الركوب استدعاه فلما أحضر إليه في قيوده وألح في استعطافه فثار غضبه وزرقه بمزرقته وزرقه أخوه وقطع رأسه.

<<  <   >  >>