للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: سبق ذكر ما ألم بي من السقم وانقطاعي إلى دمشق للتداوي فلما سفر وجه صحتي توجهت وللعود إلى الخدمة تنبهت فوصلت إلى السلطان يوم السبت ثاني يوم الفتح فاستبشر بقدومي وخلع على البشير قبل أوبتي، وكان أصحابه يطالبونه بكتب البشائر ليغربوا ويشرقوا ويسيروا في البلاد ويتفرقوا ويقول لهم: لهذه القوس ثأر ولهذه المأدبة نار ولهذا الوادي من سبيل الخاطر الفلاني سيا جار ولعله يفد ولا رواينا يرد ثم اجتمع كتابه في غيبتي وعملوا بالبشارة نسخة منها ينسخ أصلها ويفرع ويفرخ وهم بها مشتغلون وبنارها مشتعلون حتى أقبلت وجاءهم الربح وركدت الريح (٢٣٦ب) وفاح العرار ورمي لاشيح وقالوا: مرحباً بمن صبحنا وجهه الصبيح ولقيني السلطان بكل عرف بهيج وعرف أريج وتقريظ وإطراء وتقريب وأدناء وأنه من كرامة الفتح اتفاق وصولك وإقبال قبولك وقدومك في هذا اليوم وسموك بهذا السوم وهذا ميدانك فأين جوادك وأين أقلامك فهي أقاليد الأقاليم وإذا أعوجت فهي للتقويم واستردا الكتب التي تخيروها واستثقل البطاقات التي طيروها فأجريت ضامري في المضمار وانهيت قمري إلى الأبدار وبريت بقلمي للإيراد والإصدار وكتبت في ذلك اليوم سبعين كتاب بشارة وكل كتاب بمعنى بديع وعبارة ثم أردفتها في تلك الليلة بكتب نابت في سمائها عن شهب استوعبت في كل كتاب الشروح واستفتحت بتعظيم وعظمت الفتوح.

[ذكر جلوس السلطان يوم الفتح للهنا بالمخيم]

على ظاهر القدس وخطبة الجمعة قال: وجلس السلطان يوم الفتح ونص النصر ظاهر ووجه العز سافر والأمراء والعظماء قيام وجلوس وفي المطالع بدور وشموس وللموائح أنفاس وللمنائح نفوس وهو في كيكته وجلالته كاقمر في هالته والدنيا حالية بحالته والدين مدلول دلالته وأعين الأمثال منتظرة لمراسمه وألسن الإقبال مثنية على مواسمه وقلوب القبول ممتلية تمتار وأيدي الآمال متملية بنبله والجمع حافل والخطب عال ولبضائع الفضل أرباع ولصنائع الأفضال أفراح ولأجسام المكرمات أرواح فلم يتقوض المجلس إلا عن مجد مشيد وحمد عتيد وجد سعيد وسعد جديد ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح تقدم السلطان ببسط العراص وإخلائها لأهل الخلاص وتنظيفها من الأدناس وكنس ما في أرجائها من الأرجاس وكان قد سبق أمره من مبدأ الأمر بهدم ما هناك من أبنية الكفر فقد كان الداوية بنوا غربية داراً وأدخلوه فيها وخلطوه بمبانيها واتخذوا منه جانباً مستراحاً للأعلال وجانباً هرياً للأغلال فأمر في العاجل بكشف قناعه ورفع الوضيع من أوضاعه حتى ظهر موضع المنبر والمحراب واستظهروا بإقامة أقدامه من الحجاب واجتمع الخلق في ذلك الأسبوع على تفريق ذلك الهدم المجموع وتعاونوا حتى كشفوه ونظفوه ورشوه وفرشوه. وكان قد أمر بإتخاذ منبر في تلك الأيام فنجروه وركبوه ولما أصبحنا يوم الجمعة وجدنا العلل مزاحة والهمم مراحة وهناك فضلاء بلغاء وعلماء أتقياء وكل منهم قد سبق لخطبته الخطبة وأمل الفوز بفضيلة تلك الرتبة وأعد لذلك المقام مقالاً ونشط بشقشقة فصاحته من قرم حصافته عقالاً حتى إذا جعل الداعي وتعين الفرض على الساعي حضر السلطان للصلاة في قبة الصخرة وامتلأت تلك العراض والسكون واستعبرت للفرح بما يسيره الله العيون فعين السلطان القاضي محي الدين أبا المعالي محمد بن علي القرش بن الزكي للخطبة فصعد فسعد وحمد وأحمد وأبلغت بلاغته وأوردت زناد القلوب صياغته وأدت المعاني ألفاظه وأنبه الأقاصي والأداني أيقاظه فاهتزت لمقامه أكناف المنبر واهتزت لكلامه أعطاف المعشر ودعاً لأمير المؤمنين ثم لسلطان المسلمين ونزل وقام في المحراب أمامها أكمل بصلاته الفرض وأرضى بسمت دعواته والطمأنينة في ركعاته وسجداته السماء والأرض. وسر السلطان بنصبه ورفعه وامتلأ صدره حبوراً منه لجلاء بصره وسمعه فقد أخذت أشعة أنوار الخطبة في سواد الأهبة وعظمت أخطار المهابة في خواطر اللجة. ثم رتب السلطان بعده خطيباً يستمر إقامته الجمع والجماعات ويستقر ملازمته لأداء الصلوات.

<<  <   >  >>