للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وله المثل: "استنوق الجمل". قيل: قاله لما وفد مع خاله (المتلمس) على (عمرو بن هند) ملك الحيرة، وكان الشعراء يأتونه وينشدونه الشعر. فلما دخلا عليه كان (المسيب بن علس) ينشد شعرا في وصف جمل فوسمه بسمة من سمات النوق. ويقال: أن المنشد كان (المتلمس) ، أنشد في مجلس لبني (قيس بن ثعلبة) وكان طرفة يلعب مع الصبيان ويتسمع، فدعاه المتلمس وقال: أخرج لسانك، فأخرجه، فقال: "ويل لهذا من هذا".

وهذا المثل يضرب للرجل الواهن الرأي المخلط في كلامه.

ولما شب (طرفة) أعجب (عمرو بن هند) بشعره فنادمه مع المتلمس. وبقي عنده زمانا. وكان طرفة غلاما معجبا. فكان يوما يشرب بين يدي الملك (عمرو) ، فجعل يتخلج في مشيته، فنظر إليه (عمرو بن هند) نظرة كادت تقتلعه من مجلسه, فقال (المتلمس) له حين قاما: "إني أخاف من نظرته إليك". فقال طرفة: "كلا". وكان (عمرو) ذا هيبة شديدة، لا يضحك، ولا يبتسم. فأسر السوء لطرفة على إعجابه به. وقيل بل غضب لن أخته أشرفت وهم في مجلس الشراب، فرآها طرفة، فقال فيها شعرا، فحقد عليه، فعزم على قتله وعلى قتل (المتلمس) أيضا خوف هجائه، لكنه خاف أن تجتمع عليه (بكر بن وائل) إن قتلهما ظاهرا. فعزم أن يكيد لهما مكيدة.

وكانت أخت (طرفة) تحت (عبد عمرو بن بشر بن مرثد) . وكان (عبد عمرو) هذا سيد أهل زمانه، مقدما عند (عمرو بن هند) ملك الحيرة. فشكت أخت (طرفة) إليه يوما شيئا من أمر زوجها. فقال بهجوه:

لقد علم الأقوام أنا بنجوة، ... علت شرفا من أن تضام وتشتما

لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها، ... ويأوي إليها المستجير فيعصما

وأرعن مثل الليل مجر يقوده ... أريب، إذا ما ساور الأمر أبرما

شديد القوى ضخم الدسيعة مقول، ... أبي، إذا ما هم بالأمر ألحما

فأي خميس ... لا أبانا

نهابه؟،

وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

أبي أنزل الجبار عامل رمحه، ... وعمي الذي أردى الرئيس المعمما

فواعجبا من عبد عمرو وبغيه!، ... لقد رام ظلمي عبد عمرو، فأنعما

ولا عيب فيه غير أن له غنى، ... وأن له كشحا

إذا قام

أهضما،

وأن نساء الحي يعكفن حوله، ... يقلن عسيب من سرارة ملهما

فبلغ الشعر (عمرو بن هند) الملك. وكان (طرفة) قد هجاه قبل ذلك إلا أنه لم يبلغه هجوه، لأنه لم يكن أحد يجسر أن يرفع إليه ذلك.

[سبب غضب عمرو بن هند على طرفة]

ذلك أن (عمرو بن هند) خرج يوما يتصيد ومعه (عبد عمرو) . فأمعن في الطلب، فانقطع بنفر من أصحابه حتى أصاب حمارا وحشيا فعقره. فقال لعبد عمرو: إنزل إليه. فنزل فأعياه، فضحك (عمرو بن هند) . ثم قال لأصحابه: إجمعوا حطبا وأوقدوا. فأوقدوا نارا وشوى. فبينما (عمرو بن هند) يأكل من شوائه و (عبد عمرو) يقدم إليه. إذ نظر إلى قميصه متخرقا فأبصر كشحه (وكان من أحسن أهل زمانه جسما) ، فقال له: "لقد أبصر (طرفة) حسن كشحك حين قال: ولا عيب فيه، غير أن له غنى،_وأن له كشحا - إذا قام - أهضما فغضب (عبد عمرو) من ذلك وأنف. وقال له: "أبيت اللعن، لقد قال فيك ما هو شر من ذلك وأقبح" قال: "أو قد بلغ من أمره هذا" قال: "نعم". قال: "فما قال؟ ". فندم (عبد عمرو) على ما كان منه، وأبى أن يسمعه. فقال (عمرو بن هند) : "اسمعنيه وطرفة آمن". فأسمعه القصيدة التي هجاه بها (طرفة) . وهي:

أمن ليلي بناظرة خدور؟ ... يؤم بهن خبت أو ضفير

فكيف صبوت؟، أو ترجو مهاة ... منعمة، تزار ولا تزور

جلت بردا فهش له فؤادي، ... فكدت إليه من شوق أطير

فدعها وانحل النعمان قولا ... كنحت الفأس، ينجد أو يغور

فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تدور

من الزمرات أسبل قادماها، ... وضرتها مركنة درور

لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير

قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم: يقصد أو يجور

لنا يوم وللكروان يوم، ... تطير البائسات، وما نطير

فأما يومهن فيوم سوء، ... تطاردهن بالحدب الصقور

وأما يومنا فنظل ركبا، ... وقوفا، ما نحل وما نسير

أراني كلما عاديت قوما ... أتيح لهم من الأدنى نكير

<<  <   >  >>